رحل.. ليمتطي عمر الشباب!!

(قصّة)

مصطفى عاطف قبلاوي

 

كانت تجلس بين فساتينها المهملة ترتدي بنطالاً قطنيًّا رماديّ اللون وسترة بيضاء تضمّ أطراف خصال شعرها المنسدلة بعشوائية فوق أكتافها، وكان وجهها ما يزال مرتديًا ملامح الدهشة ذاتها! بالرغم من مضيّ أسبوعين كاملين على وقوع الفاجعة التي أصابت أنوثتها في الصميم!

 

كانت جملته الأخيرة لا تزال تحافظ على دويّها القاتل في روحها!

"وفاء .. لقد تزوّجت .."!!

 

لم تكن تعي لحظتها أنّ ما سمعته كان واقعًا، فلقد اعتادت على دعاباته المتكرّرة مدّة تزيد عن عشرين عامًا شغلت خلالها منصب الزوجة الأوحد ببعض الشهور!

فكيف تراه توقع منها ألاّ تردّ على ما قاله بضحكة مفتعلة تضمّ بين قهقهاتها كلمة "مبروك"!

 

لكنّ ما أثار قلقها يومها هو أنّه لم يجامل ضحكتها بابتسامة كما اعتاد أن يفعل! بل استبدل ابتسامته التي تأسرها، بتلك الملامح المتجهّمة المنبئة بما لا يسرّ وقال بهدوء يشكل العواصف: "لقد تزوّجت فعلاً!! وقد عُقد قراني ظهر اليوم! وأردتُ أن أخبرك بنفسي أفضل من أن تسمعي الخبر من هذا أو ذاك"!!

 

حافظتْ وفاء على ملامحها المبتسمة المائلة إلى الانهيار، رغم الصدمة التي بدأت تغمر ملامحها الهادئة، بدا وكأنّها ترفض الاستسلام لفكرة تصديق ما يقوله خالد!!

كيف ستصدّق هذا الهراء وهي تعرف جيدًا مدى عصف قصّتهما العشقية التي خطت سطورها وإيّاه حرفًا حرفًا منذ التقيا لأوّل مرّة في قاعة المحاضرات الكبرى في الجامعة.

 

كيف ستصدّق ما يقوله وقد أكّد لها قبيل ليلتين أنّها عشقه الأوحد!!

 

لقد كانت جدّيته اللامعتادة تقلقها بحقّ، غير أنّها حاولت الحفاظ على قوة ذاك الصوت الذي يصرخ بداخل رأسها: "إنّه يمازحك!!"

 

كانت تودّ بشدّة أن ينهي جموده الذي يملأها توتّرًا فيعترف لها بأنّه كان يحاول أن يغمر يومها بدعابة ثقيلة منه!

إلا أنّ ما تمنته بقي في خضمّ الأمنيات ولم تعرف كيف غادر خالد عالمها حاملاً حقيبة سفر صغيرة اعتادت أن توضب حاجيتهما فيها قبيل كلّ رحلة يقومان بها!

غير أنّ حقيبة هذه الرحلة لم تكن تتطلب لمستها! ودون أن تدري تناول خالد حاجياته من قصرهما الصّغير بعشوائيّة الهارب ورحل! دون أن يلتفت لفجيعتها الأعظم وألمها الوليد!!

 

.....

 

ها هي تجلس بين جبال فساتينها المهملة تتأمّل مضي أيّامها البطيئة دونه، كانت ترى ظله يحوم في حواسها رغم غيابه الذي امتدّ ليصل حدود الأسبوعين دون زيارة قصيرة لصوته إلا أنّها لم تتقبّل ولو للحظة بأنه رحل!

 

كانت تحاول إقناع نفسها دومًا بأنّه سيدخل إليها الآن، وسيضمّها بذراعيه القويّتين بالعنف العشقيّ الذي تحبّه فيه! أجل، إنّها تيقن أنه الآن في طريقه إليها وبأنّه يشتاقها تمامًا كما تشتاقه وربّما أكثر!

 

فلطالما اعتاد خالد أن يتفوّق عليها في كل مظاهر الحبّ، كان أسطورة عشقية خلقت لأجلها وحدها فكيف إذا ستقتنع بوجود أخرى تسكنه ويسكنها!

"إنّ خالد لن يسكن سواي" !! هذا ما كانت تردّده بلسان حالها طوال أربعة عشر يومًا! ولهذا كانت تتحاشى فكرة السؤال عنه ... وعنها!

 

فقد تعمّدت منذ رحيل زوجها إقفال كل درب يوصل الحديث إلى تلك الأخرى التي لم تسمع باسمها قبلاً!!

 

كانت سعيدة بوهمها الجميل بأنه مسافر! ضاربة بكلّ تبريرات أمّه التي ألقتها أمامها قبيل أيام قليلة عرض الحائط!

فإنها لن تقتنع يومًا بأن حبيبها اختار حضنًا آخر غير حضنها ليبيت بين خلاياه!

ولن تصدّق أن رحيله عنها كان طمعًا في احتلال جسد أكثر شبابًا من جسدها!!

هو الذي كتب قصيدة غزليّة في أول خطوط العمر حين سكنت ملامحها! وجلس عمرًا يلامس خصلتها البيضاء القصيرة!!

كيف سيقدم على خطوة بهذه العشوائيّة الغبيّة؟!

...

 

هو الذي همس لها ذات شوق بأنها تضفي على الجمال لمسة لا تشيخ!! كيف سيهرب اليوم منها ومن الزمن ليسكن عرش الشباب من جديد برفقة أخرى لا يعنيه فيها سوى عمرها!!

...

ترى هل هو حقًا بهذا الحمق؟!!

 

هل خلع قصتهما في عري الخريف ليمتطي جواد شباب لن يقبله!!

هل يعقل أن يفكر خالد بهذه السذاجة!!

وهل يستحقّ جسد شاب أن يقترف لأجل "امتطائه" كل هذه الخطايا بحقّ قصتهما التي عبرت كلّ الفصول بسكون العشّاق وصخبهم؟!

...

كانت تيقن كامل اليقين أنها لن تصل إلى إجابة تهدّئ من روع صدمتها إلا من خالد نفسه!! لكنها كانت تتساءل تُرى كيف ستقابله في حال أتى متفقدًا أو نادمًا؟!

تراها ستتزيّن له كما كانت تفعل دومًا عند عودته من رحلة عمل! أم أنها ستخرج إليه بحزنها المغلّف ببنطال رماديّ كمزاجها وبقميص قطنيّ بسيط!!

هل ستضمّه إليها بشوق عظيم تلبية لحاجة خلاياها، أم ستكتفي بالجلوس أمامَه لتحدّثه بحزم يفرضه منطفها؟!

 

بقيَ الصراع يدور ويدور في داخلها.. يقلقها، ينثر أسئلته فيها ويتركها مُعلقة دون أي إجابة تنقذها من هذه الحَيرة التي تزيد حزنها حزنًا!!

 

 

...

 

فجأةً ودون سابق إنذار.. دقّ جرس بابها!!

...

قفزت وفاء من زاويتها نحو هذا الحاجز الخشبيّ الكبير..

كانت تعرف أنّ "خالدها" يقف خلفه!!

وها هو ينتظر أن تفتح له باب قلبها ومنزلها ليعود إلى عرشه كما كان قبيل "مزحته" الثقيلة تلك..

 

لم تعرف أبدًا كيف استطاعت سحب ذاك المقبض الحديديّ الثقيل من حجرته بهذه السهولة..

كما لم تنتبه أيضًا لذلك الجرح البسيط الذي سببه اصطدامها بحافة السرير جرّاء لهفتها عند سماعها دويّ قبضة خالد تناديها!

إنّ كلّ ما كان يشغلها، لحظتها، هو أن تراه..

كانت تودّ أن تضمّه بين كفّيها الصغيرين..

أن تتأمل ملامحه وتستنشق عبق رجولته الذي اشتاقته!!

كانت تفتقده بحق..

وتريده بين ذراعيها من جديد وللأبد!

 

غير أنها لم تجد خلف بابها ذاك الحبيب الذي كانت تنتظره طوال أسبوعين ثقيلين!

وإنما رأت رجلاً وسيمًا يوازي خالدًا في طوله..

ويحمل ملامح تشبهه حدّ التطابق!! إلا أنّه لم يكن حبيبها!!

لم يكن خالد!

 

سألته والحيرة تتملكها: من أنتَ وماذا تريد؟

فأجابها ببرود غريب على النصف الثاني من سؤالها: أريدُكِ!!

 

لم تعرف وفاء كيف سمحت لهذا الغريب أن يدخل بيتها دون أن تصدّ اقتحامه!!

تمامًا كما لم تعرف ولم تفهم أيًا من كلماته التي قالها فور جلوسه على مقعد خشبيّ كان محظورًا أن يشغله جسد سوى جسد خالد: "أنا أعرف أنني قد فاجأتك بقرار زواجي!! وأعي تمامًا مقدار الألم الذي خلقته ليسكن فيك جرّاء هذا القرار!! ، إلا أنني أعدك وبصدق شديد بأنّي سأبقى حبيبك أنتِ.. وستبقى قصّة عشقنا حلمًا بعيدًا لكلّ عشاق الأرض!! .. أرجوكِ يا وفاء أن تتفهّمي عذري، فأنا رجل كما الكثير من الرجال، لديّ احتياجات لن تفهميها ولن تتقبّليها مهما كرّرتها!! لذا، لن أشغل نفسي بذكرها وأنا أعرف سلفًا أنها لن تكون مفتاحًا يقودنا إلى درب السعادة الذي اعتدناه!!

 

وتابع بالنبرة المتأثرة ذاتها: لقد تزوّجت فعلاً! غير أنني سأعمل جاهدًا أن أحقق العدل بينكما وألاّ أفضل إحداكما عن الأخرى!! فبالرغم من أنّها زوجتي ولها من الحقوق تمامًا كما لكِ غير أنك ستبقين أولى من ذقت معها رشفة من كأس الحبّ، وأولى من بكيت لأجلها.. وثرتُ لأجلها!!

 لذا، فإنني أرجوك أن تساندي خطاي وتساعديني لنحافظ على قصتنا التي أحبّ، وأعدك بدوري بأن أكون لك ذلك الزوج الذي عهدته دومًا وذلك العاشق الذي لطالما شاركك جنونك طوال العقدين الماضيين.

 

 

...

كانت وفاء تقف أمام حديث هذا الغريب تملأها مفاجأتها، ثمّ تساءلت: ترى من هو هذا الغريب الذي يناديني حبيبته؟!

من هو ذا الذي دخل بيتي بملامح تشبه ملامح زوجي المُسافر واتخذ مكانه على كرسيّه وراح يقصّ عليّ قصّة عشق بيننا ويقدّم لي أعذارًا توضّح أسباب خيانته العظمى لقصّتنا التي لا أعرفها.. ورحل دون أن يدلّني على هويّته؟!

 

من هو ذا الذي يتحدّث بلكنة خالد، ويتقمّص لغة جسده بحذافيرها، ويقلد ارتباكه عند اقترافه ذنبًا بهذا القدر من الإتقان؟

 

من هو ذا الذي تجرّأ على اقتحام خلوتي ليشعل بي ارتباكي ويرحل؟!

....

أغلقت وفاء باب قصرها المهجور وراحت تسير بانكسار نحو جبال فساتينها الباكية من جديد..

 

جلست أمامها بالطريقة المنطوية ذاتها لتسكن ذلك الصمت المريب مُجدّدًا، وكل شيء في داخلها يصرخ قائلاً: إنّ ذاك الرجل لم يكن خالدها! فخالدُها، بعدُ، مسافر!!

 
 
 
 
 
 
 
إتصل بنا
هاتف : +972(4)6462138
قاكس : +972(4)6553781
[email protected]