جوزي بشهر العسل

(قصة قصيرة من الواقع)

إياد برغوتي

 

بعدما خرجت محبطة من المحكمة الشرعيّة رأت الحافلة تغمز بعينها الصفراء اليمينيّة نحو المحطة، ركضت باتجاهها، كانت المسافة بينهما توحي بأمل ضئيل، خطوات سريعة وتباطؤ بعض الركاب على الدرجات الثلاث قد ينقذها من الصبر حتى الحافلة القادمة بعد ساعة تقريبًا.

لوّحت بيدها اليمنى ولم تقوَ على النداء، صعد آخر المنتظرين على المحطة بخفة وأقفل السائق الباب وانطلق بسرعة غير آبه بالسيارات التي اجتازت المفرق بأنانيّة، ضربت باب الحافلة الخلفيّ ضربتيْن قويتيْن، فأسرع السائق أكثر وابتعد، بقيت على الجزيرة، لا معلّقة ولا مطلّقة، تحت حافة الرصيف وشمس آب وفوق الإسفلت الملتهب كأرض أيامها الأخيرة. بقيت وحيدة. كلهم خانوها، حتى سائق الحافلة اللعين هذا، شتمته بصوت لم يسمعه أحد "حيوان! لئيم!".

عادت إلى المحطة، وقفت في الزاوية المظلّلة. كان جواب القاضي واضحًا: ما دمت يا ابنتي لم تحضري معك الشهود فلا يمكنك أن تثبتي زواج زوجك من أخرى، لا، شهادتك لا تكفي. قالت له إنها سمعت المنادي يدعو كلّ أهل البلد إلى تناول سمّ الهاري احتفالاً بزواج أبي ابنتها قصّر الله عمره من كريمة الحاج جارهم، وإن أهل البلد، الله لا يباركلهم، باركوا له وتمنوا له عريسًا وخلفًا صالحًا. كان القاضي حاسمًا بقسوة: ارجعي لزوجك يا بنتي، واستري حالك، إنت لحالك، لا إخوة معك ولا أب ولا يحزنون، أو اذهبي لطبيب نفسيّ ليحلّل مصدر كوابيسك وأحزانك.

هزّت رأسها وغطّت بركان دموعها بشفتين منقبضتين حسرة واستسلامًا، فقدت أملها الأخير عند قاضٍ غير عادل ومحدود إراديًا، بين قاضٍ لا يريد أن يصدّقها وأهل لا يريدون تحمّلها لم يبق لها إلا أن تعود إليه، وتقبل فيه مناصفة، "عشان بنتي"، حاولت أن تقنع نفسها، ونفسها لا تريد أن تقتنع، أحشاؤها تتمزّق قرفًا وإهانة.

تضيق الزاوية المظلّلة، وتطول الدقائق وتشتعل الشمس عمدًا. قد تحال الحياة على الأرض جهنم تجريبيّة، وقد يحال الإسفلت رملاً أسود وأفق الطريق سرابًا يتبخّر. تتماسك، تحمل جسدها بجهد، ركبتيها تنحيّان فتشدهما، عينيها تدوران فتثبتهّما في الضفة الأخرى للشارع ذي المسلكين، حيث يمشي رجل وامرأة مسنّان ببطء سعيد وتمسّك مثير للإعجاب، ستمشي لوحدها عندما تشيخ، ستمشي لوحدها قبل أن تشيخ. تدوخ.

تقف سيّارته في جزيرة المحطة، يطلق صفارتيْن قصيرتيْن متتاليتيْن، يدفع رأسه نحو شباك المقعد المحاذي له ويلوّح بيديه بقوّة، تتسمّر في مكانها، يلوّح مرة أخرى، فتتجاهله. يفتح باب السيارة ويقف إلى جانبه:

-          تعالي، أنا بوّصلك، الدنيا حمّ كتير.

-          في حدّك محل واحد، وهادا المحل بطّل إلي.

-          السيارة فاضيّة، أنا لحالي.

-          أنا اللي صرت لحالي، إنت اشتريت كمان مرا، بعد ما زهقت مني، وأنا زهقت منك، خلص، دوّر السيارة وتسهّل.

-          هاي العنادة تبعتك راح تقضي عليكي..

-          العنادة تبعتي هي اللي عملتك، بديش أحمّلك جميلة بس بدوني بتكون بالحضيض، إنت ناكر للمعروف، 15 سنة يا ويلك من الله، أدير بالي عليك وأعيّشك ع كفوف الراحة، خدّامة كنت عندك، 10 عمليات مرقت عشان أجرّب أجيبلك ولد وخسرت رحمي، ما كنش بدي ولد، حلا بتكفيني، استحملتك واستحملت مزاجاتك ونرفزاتك التافهة، ع شو كل هالأعصاب؟ حرام عليك اللي بتعملوا فيّي.. خلص طلقني وريّحني..

-          حرام عليّ؟ الشرع بحللي أتجوّز أربعة، المال والبنون زينة الحياة الدنيا..

-          إنت عتمة حياتي، إنت عارف شو يعني إنك بتنام مع واحدة تانية غيري؟! بالنسبة إلي هادا حرام وهاي خيانة لا تغتفر، هادا مش عدل والله أمر بالعدل..

-          بتسمي جيزتي خيانة وحرام؟ إنت بتستاهلي شو بصير معك.

-          لكان خيانة حلال؟ قولي، إذا كنت بتجوّز عليك؟ شو كنت بتسميها؟! 

عندما فتحت عينيها رأت وجه صبيّة صغيرة تحاول إيقاظها، ومن ورائها سيّارة إسعاف وناس، كان المسعف يتحدّث إلى الزوج المُسنّ "رأيناها تسقط دفعة واحدة"، نامت على السرير المتنّقل ودخلت مجرورة من الباب الخلفيّ لسيّارة الإسعاف، سألتها الصبيّة إن كانت تريد أن تتحدّث مع أحد لتخبره عمّا جرى، "إمّك؟ أبوكي؟ جوزك؟"، فابتسمت ابتسامة منهكة:

-          "جوزي؟ جوزي بشهر العسل".

 
 
 
 
 
 
 
إتصل بنا
هاتف : +972(4)6462138
قاكس : +972(4)6553781
[email protected]