"تعدّد الزوجات" – ظاهرة اجتماعيّة تتعدّى مفاهيم الحلال والحرام 

حنين زعبي

 

يفرز واقع مجتمعنا ضرورة الحديث عن ظاهرة "تعدّد الزوجات". واقعنا هو ما يفرز هذا النقاش، وليس أيّ "أجندة غربية" (كما يناقش البعض). التفكّك الأسريّ هو ما يفرز هذا النقاش، نساء مهانات يشعرن أنّهنّ لا شيء لا داخل أسرهنّ ولا خارجها هو ما يفرز هذا النقاش. انعدام التواصل والاحترام بين المرأة وزوجها، هو ما يفرز النقاش. وفقر مدقع تزيده هذه الظاهرة عمقًا، هو ما يفرز هذا النقاش.

واقع من النساء المستضعفات، اللواتي أقصين عن الحيز العام، يجدن أنفسهم فجأة خارج حيزهنّ الخاصّ، أيضًا. في هذا الواقع يزيد العنف ضد النساء والعنف الأسريّ بشكل عام، وتزيد حالات تشريد الأطفال. باختصار هذه الظاهرة تنتج كوارث اجتماعية. ومن لا يريد أن يواجه واقع مجتمعه، ولا النقاشات التي يفرزها هذا الواقع، هو من لا يعيش في مجتمعه، وهو من يتعامل باغتراب مع هموم ومآسي هذا المجتمع.

سمات الواقع المتشعّبة والمأساوية هذه لا تناقش فقط بمفاهيم الحلال والحرام، واقع من استفحال الفقر وازدياد التفكك والمهانة، لا تحسم ولا تعالج فقط بمفاهيم الحلال والحرام. ونحن لا نستطيع أن نحشر واقع ظاهرة لها أبعادها النفسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، ونقصر نقاشها في مستواها الفقهيّ أو الدينيّ، حيث النقاش ببساطة ليس هناك.

لكن، حتى في هذا المستوى، التوجّه الفقهي هو باتجاه حصر هذا الحلال واعتباره استثنائيًّا، وليس باتجاه توسيع ممارساته. بالإضافة إلى اشتراط تعدّد الزوجات في القرآن الكريم، اشتراط دفع البعض للذهاب باستحالة تحقيق هذه الشروط، عدد الفقهاء أسبابًا لتعدّد الزوجات، ما يعني أن تعدّد الزوجات هو الاستثناء في الحلال وليس القاعدة.

في نقبنا الحبيب والمناضل، نسبة انتشار هذه الظاهرة تصل إلى 25% (حسب إحصائيّات بعض الدراسات)، وبالتالي فهي ليست استثناء. وحيث هي ظاهرة منتشرة، نراها تتمتّع، أيضًا، بشرعيّة اجتماعيّة غير مشروطة، وتكاد تكون قاعدة اجتماعيّة طبيعيّة. وعادة ما تتزايد هذه الظاهرة في البيئات الأكثر فقرًا وتهميشًا للمرأة، وحيث تنخفض نسبة التعليم والعمل للمرأة والرجل معًا.       

نحن نتحدّث عن تعدّد زوجات في واقع حيث أغلب الأسر فيه لا يبلغ معدل دخل معيلها الوحيد– الرجل- أكثر من 5,000 ش.ج. نحن نتحدّث عن واقع أغلب النساء فيه غير متعلّمات ولا يعملن خارج البيت، وبالتالي لا يستطعنَ أن يملكنَ قرار مصيرهنّ حتى فيما يتعلق بحيّزهنّ الخاصّ.

نحن نتحدّث عن واقع نساء مستضعفات، تمّ فيه إقصاؤهنّ بشكل شبه تام عن الحيّز العام، حيث بات حيّزهنّ الخاصّ وسيلة "تعويض". نحن نتحدّث، عن واقع نساء يُهَنّ في بيتهنّ، معقل أمانهنّ. وإهانة المرأة التي اتخذ زوجها امرأة أخرى، هي ليست إهانة ناتجة عن سلوك ما، عينيّ، له بدايته وله نهايته. بل هي عبارة عن حياة تعاش تحت سقف هذه المهانة بشكل متواصل، يوميّ، يخترق تفاصيلها ويسيطر على كل زاوية فيها معتمة أو علنيّة. المرأة ليست زوجة وليست امرأة كاملة مع وجود من يشاركها من النساء. وهذا لا شأن له لا بالحلال ولا بالحرام، هذه مشاعر إنسانيّة طبيعيّة، قد تقتل مَن يحملها معه ليلَ نهار.

ويكفي هذا المستوى النفسيّ للمرأة، لكي ندرك الأبعاد الفظيعة لهذه الظاهرة. لكنّ الأمر لا يتوقف هنا، فهناك الأمّ المهانة التي تحمل إهانتها ومكانتها لأجيال تربّيها، وهو باب لمهانات أخرى. وهناك ما ينتج عنها من ظواهر مثل ازدياد الفقر، وازدياد التفكك الأسري وما ينتج عنه من تشريد للأطفال، وانعدام الحياة الأسرية الطبيعية.

ولا أكثر محلية من مواجهة واقع مجتمعنا، والاحتياجات التي يفرزها هذا الواقع. وأبعاد ظاهرة تعدّد الزوجات هي جزء من إفرازات هذا الواقع، لكنّ محاربتها هي "استيراد غربيّ" ( حسب نقاش البعض) لكلّ مَن يعتبر مجتمعه وحضارته حضارة ظلم وإهانة للمرأة. الحرّية والكرامة واحترام المرأة ليست مفاهيم غربية، واعتبارها كذلك هي إهانة للذات الحضارية والتاريخية لنا ولكل ما هو غير غربي، وليس للغرب. كما أن مواجهة هذه الظاهرة هي "استيراد غربي" لكلّ من يعتبر أن التماسك الأسري الناتج عن الدفء والودّ والتفاهم والاحترام والشراكة الكاملة بين المرأة والرجل هو مطلب لا نستحقه أو لا يلزمنا.     

السكوت على أي من مظاهر المهانة والعنف والفقر والتفكك هو أمر خطير، لكن الأخطر هو تحويل اختلافاتنا الفكرية والقيمية إلى مبرر لتوجيه التهديدات للآخرين. فالجمعيات النسوية والناشطات فيها، هي جزء من مؤسساتنا، نحن الذين نتحدث ليل نهار عن بناء المؤسسات. والتطاول على النشيطات النسويات هو كالتطاول على "المعلمين" أو "رجال الدين" أو غيرهم، فكرامة أي فئة من شعبنا هي من كرامة شعبنا، وكرامة نشيطاتنا النسويات وغير النسويات هي من كرامة هذا الشعب وهيبته.

ونحن لا نستطيع أن نسعى لبناء مجتمع عادل متطور ومتماسك، دون مواجهة كافة آفاتنا الاجتماعية. طبعًا، هناك من يستطيع أن يجد ألف سبب لعدم مواجهة الطائفيّة أو العنف المجتمعي أو الفساد أو العنصرية أو العنف ضد المرأة أو تعدّد الزوجات أو حقّ الميراث للمرأة، لكن من اختار السكوت على هذه أو أحدها، فليقف جانبًا ويصمت. أمّا اختلافاتنا الفكرية والاجتماعية فعليها أن تغني وتطوّر طرق المواجهة هذه، وليس أن تحدّها.

 

 
 
 
 
 
 
 
إتصل بنا
هاتف : +972(4)6462138
قاكس : +972(4)6553781
[email protected]