مشاريع

 

 

للإطلاع على ملخص البحث  إضغط هنا

 

 

يتناول هذا البحث قضية تعدّد الزوجات - وهو ما يُعرف في القاموس الغربي بالـ بيلوجيميا (Polygamy) - في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، في مختلِف المناطق الجغرافية وفي مختلِف شرائحه الاجتماعية. يعتمد هذا البحث منهجية البحث النوعي وأدواته، ويتم من خلال إجراء مقابلات معمّقة مفتوحة مع أزواج وزوجات يعيشون في منظومة زوجية متعدّدة الزوجات، بالإضافة إلى مجموعات بؤرية لشرائح مجتمعية مختلفة يتم رصد مواقفها من هذه القضية.

لقد اقتصرت جُلّ الدراسات التي بحثت ظاهرة تعدّد الزوجات بين الفلسطينيين في إسرائيل على العرب البدو في منطقة النقب، حيث تنتشر الظاهرة بشكل معلن جدًّا، وتقدّر نسب انتشارها بما يُراوِح بين 20 و 30%[1]. وتتعامل هذه الأبحاث مع العرب البدو كمجموعة انتماء منفصلة عن المجتمع العربي، وهو الأمر الناتج عن محاولات الدولة المستمرة تقسيم الأقلية الفلسطينية إلى طوائف وجماعات وعدم الاعتراف بها كأقلية قومية. وقد تعاملت معظم هذه الأبحاث مع قضية تعدّد الزوجات بمنظار استشراقي، لتعزو بذلك أسباب هذه الظاهرة إلى الثقافة البدوية السائدة ومنظومة العادات والأعراف المُتبعة لدى البدو، من دون الخوض في الواقع السياسي، الاقتصادي والاجتماعي وتأثيراته المركبة عليها، ومن دون التطرّق إلى السياسات العنصرية المنهجية وإلى القمع المؤسساتي وتأثيرها على واقع النساء الفلسطينيات، بدوياتٍ كنّ أو ريفياتٍ أو حضريات. ويأتي هذا الأمر كما يصفه سعيد (1995) نتيجة القصور والمحدودية الناتجة عن تجاهل ثقافة أخرى وتحويلها من جوهر خالص وتعريتها من إنسانيتها. وفي الوقت الذي تجنّبت فيه هذه الأبحاث الواقع السياسي بعنصريته تجاه النساء الفلسطينات، كما الرجال، تميّزت، أيضًا، بعدم دراستها وتحليلها لهذه الموضوعة من منظار شمولي يركز على فهم الاشتباك القائم بين عنصرية الدولة وذكورية المجتمع، ومن دون التوقف عند فهم الديناميات المختلفة في تفاعل هذه العوامل معًا.

لقد أتت هذه الأبحاث بمعظمها كميةً، وقد حصرت البحث في المقارنات المختلفة بين الزوجة الأولى والزوجة الثانية، وسلّطت الضوء على التأثيرات النفسية التي تتعرض لها الزوجة الأولى لسبب زواج الزوج، مقارنة بالزوجة الثانية، وباعتبار الزوجة الثانية هي صاحبة المكسب، فتختصر القضية بذلك في تقسيم النساء إلى فئتين، ويتم التركيز على الزوجة الأولى كضحية مقابل الزوجة الثانية التي تصوَّر كأنها الرابحة. تُعرض بذلك النتائج بشكل سطحي ومبتور، من دون التعمق بجوانب هذه القضية كافة. وتركز بذلك النتائج على الزوجات اللواتي قام أزواجهنّ بالزواج مرة ثانية، لتتمحور في الغالب حول التأثيرات النفسية التي يعانين منها إثر تعدّد الزوجات، كتدنّي التصوّر الذاتي ومعاناتهنّ من أزمات نفسية أخرى وبحدة أعلى، مقارنة بالزوجات الثانيات، بالإضافة إلى التطرق لوضعية الأولاد والصعوبات التعليمية والاجتماعية التي يواجهونها (Al Krenawi, 1999, 2000, 2001, 2002, 2006).

وفي حين يشهد المجتمع الفلسطيني في إسرائيل "إعادة إحياء" لهذه الممارسة في مختلف مناطقه وشرائحه الاجتماعية، فقد جاءت هذه الدراسة للبحث في منابتها، العوامل التي تولدها وتكرس وجودها، والسياق الذي يشجّع تناميها أو يعيق انتشارها. وتهدف هذه الدراسة إلى فهم الديناميكيات التي يحتويها هذا النسق من الحياة العائلية وتحليله، منطلقة، أولاً، من وجهة نظر النساء أنفسهنّ اللواتي يعشن تعدّد الزوجات، ومن وجهة نظر رجال آخرين متعدّدي الزوجات، ورصد التأثيرات المختلفة الناجمة عنه. وفي محاولة لفهم الخطاب المجتمعيّ الدائر حول القضية يُخصّص البحث حيّزًا محدودًا لعدد من المجموعات البؤرية من شرائح اجتماعية مختلفة، ويحلّل الخطوط العريضة للحوارات التي جرت فيها.

لذلك، فقد تمّ الاعتماد في هذا البحث على منهجية البحث النوعيّ لكي يؤمّن دراسة هذه الظاهرة من خلال وجهات نظر الأفراد الموجودين داخل هذه المنظومة، ومن خلال إجراء مقابلات معمّقة تفسح المجال أمام المشاركين والمشاركات في البحث لصياغة وجهة نظرهم، مواقفهم وطرق تعاطيهم معها بلغتهم، وكما يعبّرون عنها هم لا كما يتم تداولها عن بعد، ليرصد بذلك مقولاتهم/نّ وتفسيراتهم/نّ وأسلوبهم/نّ وطرائقهم/نّ في صياغة هذه الوضعية، وفي التعاطي معها، وليقف بالتالي عند العوامل التي تشجع إحياءها من جديد. بينما تتم دراسة المواقف المجتمعية تجاه هذه الظاهرة والتفسيرات التي يوردونها لتوسع انتشارها، وذلك من خلال حوارات داخل مجموعات بؤرية.

يبدأ هذا البحث بتخصيص حيّز مركزي للنساء اللواتي يعشن في منظومة متعدّدة الزوجات: زوجات قام أزواجهنّ بالزواج بامرأة أخرى، وزوجات ثانيات قمن بالزواج برجل متزوج. ويأتي هذا التخصيص كجزء من محاولة كسر التوازنات القائمة المبنية على "إخراس" النساء في مجتمع ذكوري، يهيمن فيه صوت الرجل باستمرار، وكذلك لإفساح المجال أمام الزوجات "الثانيات" كأفراد وكمجموعة تحمل تصوراتها، وأسبابها ومواقفها وصياغاتها لهذه المنظومة. إن إعطاء الحيّز المركزي للنساء، أساسًا، يأتي ليموضعهنّ في مركز البحث كذوات يعبّرن عن أنفسهنّ، ولا يُبقيهنّ كموضوعات يتم التحدث عنهنّ. وهو بذلك بحث ليس عن النساء بل معهنّ، ويفسح المجال لإعلاء أصوات طالما تم إخراسها. في الوقت الذي كانت دراسة الرجال هي المحور التقليدي للقسم الأعظم من الأبحاث، وإذ كان يُفترض في كثير من الأحيان أن المرأة تقطن مجالاً خاصًّا سكونيًّا وغير دينامي اجتماعيًّا، وحتى غير متمايز، فإن النساء كنّ بكلّ بساطة غائبات (ويب، 15 :2002). وقد تم اختيار المقابلات المعمّقة من أجل تأمين مُناخٍ يُتيح لهنّ الخصوصية والأمان ويساعدهنّ في التعبير عن أنفسهنّ بشكل أعمق وأكثر حرية، وذلك لخصوصية الموضوع المطروح وما يُمكن أن يحمل بين طيّاته من مشاعر صعبة وحيثيّات بالغة الخصوصية، وما تحويه العلاقة الزوجية من ديناميات متوترة وموترة، وحيث يطفو الجنس بكلّ إشكالياته كثيمة مركزية تظهر، أحيانًا، بشكل مستتر، وأحيانًا أخرى بشكل صريح. تستطيع هذه الآلية إتاحة الفرصة لكلّ امرأة ورجل للتوقف عند قصة حياته/ها - Life Histiory، والتوقف عند مفاصل مهمة وحاسمة في نشأته/ها، والمركبات التي ساهمت في كينونته/ها، المعاني التي تعرف بها نظرته/ها لتعدّد الزوجات.

وعندما يستحضر هذا البحث صوت الرجال، فمن المهم كذلك التأكيد على أنه لا يأتي ليخدم الأجندة الذكورية أو يرد على أصوات النساء، بل يأتي كاستمرار في تفكيك هذه الأصوات، وفهم العوامل المتعدّدة التي يتفاعل فيها والتي تُفضي إلى تكوين هُويته وأنماط ارتباطاته، وكذلك من أجل التركيز على تحليل التمايز بين وجهة نظر الرجال والنساء وربطها بالتمايز القائم في الأدوار الاجتماعية لكليهما، ولعلاقات القوة القائمة بينهما.

ينطلق البحث أولاً، من الأخذ بعين الاعتبار الأنماط الحياتية المتعدّدة التي جرى إلقاء الضوء عليها، سواء في المقابلات المعمّقة أم في المجموعات البؤرية. ويأتي هذا منسجمًا مع تبنّي المنطلق الذي يؤكّد التعدّد وفهم التجربة الإنسانية، وفرادة النساء (وكذلك الرجال)، لتفضي هذه الإطلالة إلى معايشة حيوات متعدّدة وإلى تلمس أساليب متنوعة في التعاطي مع هذه المنظومة. وبقدر ما يحاول هذا البحث الابتعاد عن "جوهرة المرأة" الذي لا بدّ أن يُفضي إليه كلّ شكل من أشكال الاندراج في النمطية ونمطية الأنساق والأدوار الاجتماعية، بقدر ما يطمح كذلك إلى الوصول إلى ترسيم بُنيويّ للمعيش النسائي أولاً، عبر محاولات اختراق هذه النمطية. فالتشديد على تنوّع الممارسات والعمليات طريقة لتجاوز الجوهرية والقوالب النمطية من شتى الصنوف. لكن ويب تشير (2002) إلى أنه كون النتائج النمطية نتائج صلبة جدًّا، يُعاد إنتاجها وتحمل سطوة اجتماعية، خصوصًا حين يتعلق الأمر بالتصورات الشعبية عن دور كل من الزوج والزوجة، وكلّ ما يغلّفه المجتمع من تصورات للزواج ولتعدّد الزوجات، فلا جدوى في نفي حقيقتها بكلّ بساطة والتطلع إلى تجاوزها، لأن رفض الاشتباك معها هو بمثابة تجاهل أو استهانة بسطوة القيم الثقافية السائدة التي تثبت في سائر المجتمعات أن مقاومتها عمومًا أصعب من استيعابها.

وثانيًا، يجتهد هذا البحث في الحرص على الانتباه إلى أن الانتصار للخطاب الثقافي يجب ألاّ يحجب الذات العائشة والقائلة والعاملة، فهي مُنتِجة للثقافة كما هي نِتاج عنها، وهي موجودة في تفاعلات دينامية تتجاوز التناقضات النمطية المنحصرة في الثنائية النمطية - حداثة/تقليد، خاصّ/عامّ، داخل/خارج، دين/دنيا، ذات فردية نشطة/ذات جمعية معطلة. بل إن هذه العناصر جميعًا تتداخل وتتشابك في حركة لولبية تشير إلى درجات وتلوينات تتطلب التظهير. لذا فإن هذا البحث يأتي بمنطلقاته تلك لتقصّي الحقيقة المَعِيشة، بعيدًا عمّا يُقال ويُتداول. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن اعتماد المقابلات المعمّقة والمجموعات البؤرية كآليتيْن أساسيتيْن في البحث، لا يُفضي إلى اعتبار هذا البحث شاملاً وممثِّلاً لكلّ حالات الزواج المتعدّد الزوجات، ولكلّ المواقف المجتمعية المتعلّقه بها، وإنّما من الأجدر اعتباره مساهمة في استشراف قضية تعدّد الزوجات بمنظار مختلف عن السائد، وفي سدّ فجوة معرفية ما زالت فارغة.

أمّا المنطلق الثالث للبحث فيأتي من اعتبار قضية تعدّد الزوجات كسائر قضايا النساء في جوهرها قضايا إنسانية لا تنفصل عن قضايا الرجال، كذلك فهي من ثمّ جزء جوهري أصيل في قضية الوجود الاجتماعي للإنسان، في واقع تاريخي محدّد، وهو الذي يحدّد، عبر شروط علاقاته الاجتماعية التي هي تعبير عن شروط علاقات الإنتاج، وضعية الرجل ووضعية المرأة معًا في نسقها الاجتماعي والثقافي والفكري (أبو زيد، 85 :1999). ولا شك في أن العودة مجدّدًا إلى مناقشة تعدّد الزوجات بشكل خاصّ وقضايا النساء في العالم العربي والإسلامي كافة، لا تنفصل عن نموّ الظاهرة التي يطلق عليها أصحابها عادة اسم "الصحوة الإسلامية"، بينما يسميها البعض الآخر "الإسلام السياسي"، وتسمّى في الإعلام الغربي "الأصولية الإسلامية". وأيًّا كانت الصفات التي تلحق بالظاهرة في تسمياتها المختلفة، فإن حضورها مركزي في إثارة الأسئلة التي كنّا نظنّ جميعًا أن خطاب النهضة قد قدّم الإجابات الحاسمة عنها، خصوصًا تلك الأسئلة التي تتعلق بحقوق المرأة في الشريعة الإسلامية.

يستدعي الخوض في تعدّد الزوجات في المجتمع الفلسطيني، الخوض في مكانة المرأة الفلسطينية واختراق التفاعلات العلائقية بين الجنسين، بكلّ ما تحملها من توترات وصراعات في بُنية اجتماعية تقوم على التمييز بين الجنسين وعلى تأكيد الفصل بينهما بمختلف الوسائل والمؤسسات. وعمليًّا، إن الدخول في هذه القضية يعني وُلوج أكثر المناطق حظرًا، ويعني الحفر في مناطق شخصية جدًّا ومحمّلة بالكثير من المعاني، وباعثة لكثير من المشاعر التي طالما اعتُبرت واحدة من "التابوهات" في المجتمع، التي لا يُمكن الحديث عنها. فالتطرّق إلى تعدّد الزوجات يعني، في الأساس، التطرّق إلى مؤسّسة الزواج ومفهوم المشاركين والمشاركات في ما يتصل بها، وإلى مفهوم العلاقة الزوجية والجنسانية، والجنس كموضوع طالما اعتُبر تقليديًّا من المحرمات، في حين أنه يشكل أعمق العوالم الداخلية لكينونتنا، وكذلك أكثر الساحات التي تخبّر عن علاقات القوى السائدة بين الجنسين والديناميكيات القائمة في العلاقات الجنسية التي يتفاعل فيها الرجال والنساء، وفي أشكال تعاطيهم/نّ مع موضوع الجنس كثيمة حاضرة غائبة في بعض الأحيان، أو متخفية من وراء مقولات عديدة تتمظهر بأشكال مختلفة لتكشف عن نفسها كميكانيزم مهم في الهندسة الاجتماعية.

ورغم عدم وجود إحصائيات دقيقة عن نسب تعدّد الزوجات في المجتمع العربي في إسرائيل، تبقى النسب الموجودة في النقب إحصائيات تقديرية، غير أن ممارسة تعدّد الزوجات آخذة في الاتساع في المجتمع الفلسطيني، ليس في الجنوب، فقط، بل في المدن والبلدات العربية كافة. وقد تبدّى هذا الأمر بوضوح في أثناء سير البحث. وتعود الإشكالية الإحصائية إلى كون ممارسة تعدّد الزوجات مخالفة جنائية حسَب البند 176 من القانون الجنائي الإسرائيلي، عقوبتها السجن لمدة أقصاها خمس سنوات. وفي حين ينتشر تعدّد الزوجات، فإن عدد الزيجات المتعدّدة الزوجات المسجلة في دائرة السكان لا يعكس الواقع الحقيقي.[2] يقوم بذلك غالبية الأزواج المتعدّدي الزيجات من خلال الالتفاف على القانون، عبر عدم تسجيل الزواج في دائرة السكان والاكتفاء بعقد زواج خارجي يُعقد بحضور شهود ويثبّت في كثير من الحالات في المحكمة الشرعية[3] (أبو ربيعة، 2008). فيُعتبر هذا العقد حسَب الشريعة الإسلامية عقد زواج شرعيًّا، بينما يُعرّف حسَب القانون الإسرائيلي كزوجين يعيشان معًا من دون زواج.[4] تطبيق العقوبة غير قائم تقريبًا، ويعود هذا الأمر، أولاً، إلى الثغرة القانونية في مبنى القانون، والتي لا تتيح المخالفة طالما لم يظهر أنّ الزواج مسجّل رسميًّا. غير أن هذا العامل ليس الوحيد في تنفيذ القانون، بل يبقى العامل الأكثر حسمًا في تعامل مؤسسات الدولة وعدم قيامها بفرض القانون باعتبار تعدّد الزوجات ممارسة تتعلق بـ"الثقافة" الخاصة، والتي لا داعي للتدخل فيها. وبذلك يتم باسم "الحساسية الثقافية" تجاهل هذه المخالفات، في الوقت الذي لا تجد هذه "الحساسية" لها مكانًا في سياسات هدم البيوت ومصادرة الأراضي وكلّ الممارسات التعسفية الأخرى، التي تمارسها الدولة تجاه المواطنين العرب.

إن وجود القانون الإسرائيلي الذي يمنع تعدّد الزوجات، واعتبار الأزواج المتعدّدي الزيجات مُخالفين لهذا القانون، له أثر بالغ على تجاوب الأفراد في هذا البحث ومشاركتهم في المقابلات المعمّقة. وقد تبدّى هذا الأمر بحدّة أكبر لدى الرجال الذين توجّسوا من البحث ورفضوا المشاركة فيه أو تهرّبوا بشكل غير مباشر من المشاركة، ممّا خلق صعوبة بالغة في الوصول إليهم. أمّا النساء فقد كنّ أكثر استجابة، غير أن التوجّس والخوف بقيا ملازمين لهنّ قبل المشاركة في المقابلة، وكذلك في أثنائها، مما دعاهنّ إلى التأكد باستمرار من أن هُويّاتهنّ ستبقى في البحث مجهولة. وهذا ما تم فعلاً، فقد تم الاهتمام بإبقاء المشاركين والمشاركات مجهولي/ات الهُوية واستبدال أسمائهم/هنّ بأسماء مستعارة وعدم عرض المعلومات الأساسية عنهم/هنّ بشكل دقيق، والاستعاضة عن ذلك بمعلومات عامّة. فتم الاكتفاء بعرض المنطقة الجغرافية التي يقطنونها بدلاً من أسماء البلدات والمدن، توخّيًا للحفاظ على السرية. والتوجّس لم يكن مردّه الجانب القانوني، فقط، بل يعود كذلك إلى خصوصية الموضوع وما يتطلبه من كشف لتفاصيل شخصية يعتريها الكثير من القلق والإرباك والجاهزية للانكشاف وتلمّس المشاعر وتحديدًا بالنسبة إلى المشاركات، وما يرافقه من مقاربة لعوالم داخلية شائكة يعتريها الكثير من الخوف والألم.

يبقى التحكم بجنسانية المرأة، الأداة الأقوى للنظام البطريركي في غالبية المجتمعات. ويتحقّق هذا الأمر من خلال آليّات معقدة من الاستغلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بما في ذلك الإخضاع عن طريق الإكراه والعنف. لذا فإن الغوص في قضية تعدّد الزوجات بين الفلسطينيين في دولة إسرائيل، يعني التطرق إلى مكانة المرأة الفلسطينية وإلى علاقات القوة القائمة بين الجنسين، وكذلك إلى علاقة المجتمع الفلسطيني، رجالاً ونساء، بالسلطة السياسية. في هذا السياق المركب، تتعرض النساء الفلسطينيات إلى أشكال مختلفة من القمع والاضطهاد، وهو نِتاج لتمييز مثلث يبدأ، أولاً، من كونهنّ نساء يعشن في عالم ذكوري كسائر نساء العالم؛ وثانيًا، من كونهنّ يعشن في مجتمع عربي محافظ يقمع محاولاتهنّ للتحرر؛ وثالثًا، لكونهنّ فلسطينيات يعشن في دولة تميّز ضدّهنّ وضدّ سائر أبناء شعبهنّ على خلفية قومية (Espanioly, 1994). تُظهر جميع المعطيات أن النساء الفلسطينيات في إسرائيل موجودات في الصفوف الخلفية وعلى هامش الحياة السياسية والاقتصادية، فيتموقعن في أسفل السلم الاقتصادي، السياسي والاجتماعي. ورغم التحسّن الذي طرأ على وضعية النساء في بعض المجالات، تُظهر المعطيات التي يتزايد انتشارها في السنوات الأخيرة واقعًا متردّيًا للنساء الفلسطينيات في مختلف المجالات.

لقد عمّم "مشروع المرأة الفلسطينية في الموازنة الحكومية"[5] في ذكرى يوم المرأة العالمي في سنة 2010، إحصائيات تشير إلى أن نسبة الفقر بين النساء العربيات تصل إلى 56.8%، ونسبة مشاركتهنّ في سوق العمل لا تشكل سوى 23.2%، وهي أقل من نصف نسبة النساء اليهوديات المشاركات في سوق العمل، وأقل من نسبة مشاركة النساء العربيات في دول عربية محافظة. ورغم أن مجال التعليم بين الإناث كان أكثر المجالات التي أحرزت فيه النساء تفوّقًا كبيرًا، فإن هذا الإنجاز لم يُترجم في زيادة وجودها في سوق العمل أو في المشاركة السياسية، ولم يستطع كذلك إحراز تغيير جوهري في مفاهيم الجنوسة والأدوار الاجتماعية، مما يُبقي غالبية النساء في تبعية اقتصادية واجتماعية للسلطة الأبوية.

وتُعتبر المشاركة السياسية للمرأة من أكثر المجالات التي تعاني النساء العربيات فيها من التهميش. فرغم الدور الوطني الذي لعبته النساء في الصراع القومي قبل النكبة وبعدها، فمستوى المشاركة والتمثيل السياسي للنساء بقي متدنّيًا. وعلى مدار سنوات طويلة لم يقُم أيّ حزب عربي (أو عربي - يهودي مشترك، كالجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة والحزب الشيوعي) بإيصال أية امرأة عربية إلى البرلمان الإسرائيلي، إلا في الانتخابات الأخيرة للكنيست عام 2008، حين قام حزب التجمّع الوطني بترشيح عضوة الكنيست الحالية حنين زعبي، التي تُعتبر اليوم أول نائبة عربية في الكنيست تمّ انتخابها من خلال حزب عربيّ. بينما ما زالت النائبات المنتخبات في المجالس المحلية والبلديات لا يتجاوزن عدد أصابع اليد الواحدة. وقد كانت أبو بكر (2001) عَزَت هذا التدنّي إلى حواجز ذاتية أخلاقية عند النساء، تستمد جذورها من ثقافة العيب والحرام، عندما يأتي الحديث عن خروج النساء إلى الحيّز العامّ، وكذلك إلى حواجز خارجية كثيرة نابعة من الوضع السياسي للأقلية الفلسطينية، ومن الحسابات الداخلية للأحزاب المبنية على التمثيل الفئوي والمنطقية التي تهتمّ الأحزاب بالحفاظ عليها رغم تعارضها مع أيدلولوجياتها المعلنة.

وقد كشف البحث الذي أجرته غانم (2005) في خصوص مواقف المجتمع الفلسطيني من قضايا المرأة، أن المواقف من المرأة تنقسم إلى صنفين: مواقف تحيل إلى حقوق المرأة ومواقف تحيل إلى احترام المرأة. وأظهر أن احترامها لا يتناقض والرغبة في استمرار السيطرة عليها؛ فالرجل الذي عبّر عن احترامه الشديد للنساء، أو رجل الدين الذي وضع المرأة في مكانة عُليا كمقدسة، وشدّد على ضرورة تكريمها، لم يكن على استعداد للإقرار بضرورة المساواة بين الجنسين. وقد أظهر البحث أن المجتمع يُبدي استعدادًا واسعًا للاعتراف بحقوق المرأة العينيّة، مثل الحق في التعلم والعمل والحماية من العنف، كاستجابة للتغيرات المجتمعية ومتطلبات العصرنة، بينما ما زال غير مستعد للقبول بهذه الحقوق بشكل جارف عبر شرطها بمجموعة من المطالب المترافقة التي تأتي، عمليًّا، لتكرّس النظام الأبوي من خلال عدم الإقرار بحق المرأة في حرية الحركة والسيطرة على الجسد وإقامة علاقات ندية مبينة على المساواة التامة مع الرجل، فتبقى المفاهيم الأبوية المتعلقة بالسمعة والشرف وتفهّم ضرب المرأة أو قتلها (في بعض الحالات) عبارة عن بوليصات تأمين لضمان إعادة إنتاج علاقات السيطرة بين الجنسين.

يحلل شرابي (1993) السيرورة التي مرت بها المجتمعات العربية في المائة عام الأخيرة، من جراء اصطدامها بالحضارة الغربية والتغيير الذي طرأ عليها نتيجة هذا الاصطدام، مشيرًا إلى أن هذا التغيير لم يؤدِّ إلى استبدال النظام القديم بنظام جديد، بل إلى تحديث القديم، فقط، من دون تغييره جذريًّا، لينبثق عنه نظام أبوي مستحدث بحضارته    المخضرمة التي نعيش اليوم في ظلها. ينتج عن هذا التصادم مجتمع يمتلك كلّ مظاهر الحداثة الخارجية، إلاّ أنه يفتقر إلى القوة والتنظيم والوعي الداخلي. وتظهر أشد تجليات هذا النظام المستحدث في العائلة الأبوية التي تتمتع بمظاهر خارجية تبدو "حديثة"، إلاّ أن بُناها الداخلية تبقى متجذرة في القيم الأبوية وعلاقة القربى والعشيرة والطائفة والجماعة العرقية، ليتشكل بذلك نظام ليس تقليديًّا بالمعنى التراثي، كما أنه ليس معاصرًا في المعنى "الحداثوي"، بل هو خليط غير متمازج من القديم والحديث ومن التراثي والمعاصر في الوقت نفسه. وتُعتبر مؤسسة الزواج بأشكالها المختلفة وما تحويه من تفاعلات مركبة، أكثر المؤسسات الاجتماعية التي تعكس هذا الواقع الاجتماعي الاقتصادي والثقافي للنساء الفلسطينيات وكذلك للرجال. فرغم أن معدل سن الزواج ارتفع بسنة ونصف خلال العقود الثلاثة الأخيرة لدى الرجال والنساء (ويُعتبر ارتفاع مستوى التعليم عاملاً مؤثرًا في هذا الارتفاع)، فالزواج المبكّر ما زال منتشرًا، وما زال يتم تزويج الكثير من الفتيات وهنّ دون السن القانونية للزواج (Saa'r, 2007). ومع اتساع التغيرات المجتمعية واشتباكها مع الكثير من العوامل الاقتصادية والسياسية، يُعاد إدراج آلية الزواج المبكّر كآلية عملية للتحكم بالعلاقات بين الجنسين ولمواجهة واقع جديد لم يعُد لسلطة العائلة القدرة على التحكم به، لسبب العوامل الخارجية التي تتغلغل بقوة والتي تُفقد العائلة سيطرتها وقدرتها على إحكام تفعيل آلية الفصل بين الجنسين.

وضمن هذا السياق يتم في أغلب الأحوال إساءة استخدام الدين باعتباره أداة قوية للسيطرة، من أجل شرعنة انتهاكات حقوق المرأة الإنسانية (ايلكاركان، 2004: 12). يعمل الخطاب الديني كما تشير حداد (2003: 47-80)، وبشكل متزايد، على طرح القيم الإسلامية المتعلقة بدور النساء والأسرة والنظام الاجتماعي، ليس بصفتها الوصفة السماوية للإنسانية فحسْب، إنما، أيضًا، بكونها آخر معاقل المقاومة ضدّ الفوضى الشاملة التي يغزو الغرب فيها المجتمعات العربية والإسلامية، وباعتبار الخطاب الديني تعبيرًا حضاريًّا عن واقع جديد يرفض التبعية والهيمنة الغربية ويعتبر الصراع مع الغرب ليس عسكريًّا أو سياسيًّا فحسْب، بل صراعًا حضاريًّا، أيضًا. من هذا المنطلق يقوم الخطاب الديني (كما فعل قبله الخطاب القومي) بتحميل النساء عبء التمثيل المادي والرمزي لمتغيرات وثوابت الثقافة التقليدية والعصرية. إذ يعتبر هذا الخطاب المرأة والعائلة ركنيْن أساسييْن في هذا الإطار، وبناء على ذلك اعتُبرت المرأة حاملة الحضارة الرئيسية و"صائنة التراث" المضطلعة بدور المعقل الأخير ضدّ التغلغل الأجنبي.

إن تعاظم الخطاب الديني في المجتمع الفلسطيني حقيقة ملموسة تظهر انعكاساتها على مختلِف الصُّعُد، وتتخذ العودة إلى فرض الإسلام على الحياة الخاصّة والعامّة أشكالاً عديدة، تنعكس في إيلاء المزيد من الاهتمام للممارسات الدينية، كالصلاه وانتشار لباس الحجاب وتعزيز الممارسات العازلة بين الجنسين، وكذلك في ممارسة تعدّد الزوجات. يتشابك هذا الخطاب مع حالة الإقصاء والتهميش السياسي والاقتصادي والثقافي الذي تعيشه الأقلية الفلسطينية في دولة تعتبر وجود هذه الأقلية "خطرًا ديموغرافيًّا"، وتمارس سياسات عنصرية منهجية تدفعها للعيش على هامش الدولة. وأمام هذا العجز والتشرذم تلجأ الذات الجريحة إلى الهروب إلى الماضي، إلى هُويتها الذاتية الأصلية، إلى الرجولة في بقائها المتوهم، وبذلك تتم إعادة صياغة ممارسة تعدّد الزوجات كـ "فعل وطني" يتم إعلاؤه من على المنابر، وتُصبح مخالفة القانون الإسرائيلي إعلان "مواجهة"، وتُعتبر مطالبة أحد أعضاء الكنيست الممثل عن الحركة الإسلامية - الشق الجنوبي بالسماح بممارسة تعدّد الزوجات، أبلغ تعبير عن ذلك.[6]



[1] تقرير أعدّته أورلي لوطان من مركز البحث والمعلومات في الكنيست، وقُدّم إلى لجنة رفع مكانة المرأة، سنة 2006.

[2] يُظهر تقرير الكنيست الذي قُدّم إلى لجنة رفع مكانة المرأة، أن المعطيات الرسمية تشير إلى عدد قليل سنويًّا من الزيجات المتعددة الزوجات، ففي سنة 2005 على سبيل المثال، سُجّل أربع وعشرون زواجًا متعدد الزوجات، ثمانية عشر زواجًا منها تم في إسرائيل وستة زواجات خارجها.

[3] تشير أبو ربيعة في العدد الخامس والخمسين لعام 2008 من مجلة عدالة الإكترونية، إلى مقارنات في السنوات الواقعة ما بين 2000 و2004 بين المحاكم الشرعية في البلاد والمحكمة الشرعية في بئر السبع، يظهر فيها أنه في حين منحت المحاكم الشرعية في مناطق مختلفة من البلاد تراخيص بنسب قليلة للزواج المتعدّد الزوجات، وصلت نسبة التراخيص التي أصدرتها المحكمة الشرعية في بئر السبع إلى 66%. ومعنى ذلك أن المحكمة الشرعية في بئر السبع تعطي في غالبية الحالات تراخيص للزواج المتعدد الزوجات.

[4] وما يُعرف حسَب تعريفات المؤسسات الإسرائيلية كـ "يدوعيم بسيبور" (معروفون بين الجمهور).

[5] خبر في الموقع الإكتروني – بانيت، في تاريخ 8/3/2010 بعُنوان "مشروع المرأة الفلسطينية في الموازنة الحكومية".

[6] خبر عن الموقع الإكتروني – إيلاف، بعُنوان "نائب في الكنيست الإسرائيلي يطالب بالسماح بتعدد الزوجات" في تاريخ 9 تشرين الثاني 2006:  http://www.elaph.com/ElaphWeb/Entertainment/2006/11/189553.htm. حيث دعا عضو الكنيست عباس زكور إلى تغيير القانون الإسرائيلي والسماح بتعدّد الزوجات.

 
 
 
 
 
 
 
إتصل بنا
هاتف : +972(4)6462138
قاكس : +972(4)6553781
[email protected]