مقالات ودراسات

 

العائلة هي نواة التنظيم الاجتماعي والاقتصادي، تسودها علاقات التكافل والتعاون والود والالتزام الشامل بفعل ضرورات الاعتماد المتبادل. وبالمقابل، ما زالت هذه الوحدة في مجتمعاتنا العربية هرمية، بمعنى أن التنشئة السلطوية والتمييز على أسس الجنس والعمر ما زال قائما فيها إلى حد بعيد رغم التحولات المهمة الحاصلة في المجتمع. بالرغم من اتخاذ هذه المنظومة أشكالاً مختلفة ومتغيرة عبر التاريخ الإنساني، إلا أن شكلاً معيناً منها ما زال يرافقنا حتى يومنا هذا وهو تعدد الزوجات، أي تزوج الرجل بأكثر من امرأة في ذات الآن.  

 

لقد جرى ويجري نقاش حاد حول مسألة تعدد الزوجات، واختلفت الآراء بين خصوم ومناصرين. يرى خصومه أن منعه جزء لا يتجزأ من قضية تحرير المرأة لأنه ينتقص من كرامتها وحقوقها الإنسانية، حيث اعتبره قاسم أمين نظاماً بدائياً، كما واعتبره الإمام محمد عبده أنه يشكل ضرراً على الإسلام وتهديداً للأسرة بقوله: "فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيوت ومن البيوت إلى الأمة ... فهي تضري بينهم العداوة والبغضاء... فيدب الفساد في العائلة كلها"[1].

 

على نطاق الساحة المحلية، نذكر أن القانون الإسرائيلي قد جَرّم تعدد الزوجات بتحديده عقوبة خمس سنوات سجن على مرتكبها؛ بينما الشريعة الإسلامية، وكما يراها البعض، قد حللت تعدد الزوجات، وهنا يضيق بنا المقام للخوض في الحكم الشرعي لتعدد الزوجات، ولن نفعل لأننا نناقش هنا قضية اجتماعية من الدرجة الأولى وعادلة إلى أبعد الحدود. الهدف في هذه المقالة ليس تكريس الخطاب الديني لفحص إذا ما كان التعدد حراماً، حلالاً،  محبذاً أم مشروطاً أم... الخ، إنما التركيز على السلبيات التي تنتج عن مثل هذه الأطر في المجتمع؛ وقد أصاب من قال أن مناقشة قضية المرأة من خلال مرجعية النصوص، مع تجاهل كونها قضية اجتماعية في الأساس، هو تزييف لهذه القضية[2].

 

وبين هذا وذاك، تقع المرأة العربية ممزقة بين تشريعات متناقضة، المدنية من جهة والدينية المجتمعية من جهة أخرى، وهذا ناتج عن عدة أسباب أهمها عدم فصل الدين عن الدولة في عدة مجالات أولها مجال الأحوال الشخصية. فمن ناحية، يُجرم القانون الجنائي تعدد الزوجات ويعاقب من يخالفه.  ومن جهة أخرى، فإن النظام المجتمعي الذي يشرعن الزواج التعددي من منطلقات مختلفة أساسها المنطلق الديني، يضطر الرجال في بعض الأحيان إلى اتخاذ زوجة واحدة بشكل قانوني بينما تعتبر الأخريات (من قبل السلطات) خليلات، وذلك كي لا يتعرض الرجل للمسائلة القانونية، وبالتالي تقع المرأة العربية ضحية لهذا التناقض، الذي يزداد حدة حين تتخاذل الدولة، "مترفعةً"، في حماية النساء العربيات من مثل هذه الأطر التي يُدفعن إليها مرغمات دون موافقتهن وأحياناً حتى بدون معرفتهن.

 

التناسق الدائري بين السياسة الحكومية بعدم تطبيق قانون منع تعدد الزوجات، والرؤيا المجتمعية للظاهرة والتي أعطت نوعاً من الشرعية والتفهم لها، وكذلك النظرة الأكاديمية لموضوع تعدد الزوجات التي ترى في تدخل الدولة فيه، نوعاً من التدخل الثقافي الذي ترفضه باسم التعددية الثقافية والحساسية للاختلاف، يجعل هذا الموضوع على درجة من الحساسية كونه يقع على الحدود بين القانون والدين، بين المعايير القومية والأخرى الاجتماعية. والتساؤل الذي نطرحه دوماً: من يجب أن يدفع ثمن هذه الحساسية، وهل حلبة القضاء هي الحلبة الأنسب لتحقيق التغيير الجذري المنشود في المفاهيم والنهج في هذا الخصوص؟ لن تأت الإجابة على هذا التساؤل قبل وصف إسقاطات الظاهرة على المجتمع عامة والنساء والأطفال خاصة.

 

تفيد دراسات عدة أن الزوجات اللاتي يقوم أزواجهن بالزواج مرة أخرى تعاني من حالات نفسية تتراوح بين الشعور بالإذلال وحتى الإصابة بنوبات عصبية وهستيرية. فللظاهرة تبعات اجتماعية جمة أهمها تدني مكانة الزوجة الأولى داخل المجتمع لأنه ينظر إليها كمن فشلت في أداء دورها، وكذلك تدني موقعها داخل الأسرة نفسها. بالإضافة، أظهرت عدة دراسات أن نسبة النساء اللواتي تعرضن للتعنيف من قبل أزواجهن في عائلة الزواج المتعدد أكبر بمرة ونصف من نسبة النساء اللاتي تعرضن للضرب في إطار الزواج غير المتعدد، على كل ما يترتب على العنف من تبعات. نقطة إضافية من الجدير ذكرها، هي العبء المادي الذي تضطر العائلة التعددية لتحمله خصوصاً مع ازدياد تهديد شبح خط الفقر للعديد من العائلات العربية في البلاد. أما عن الأطفال في العائلات التعددية فقد أظهرت عدة دراسات مدى معاناة الأطفال فيها على الصعيد النفسي والسلوكي والأسري والتعليمي.

 

وعليه، نجيب على التساؤل آنف الذكر: إن دفع عجلة التغيير يجب أن يأتي بشكل كامل ومتكامل من جميع الأطر وعلى عدة مستويات منها المستوى السلطوي بتطبيق القانون وفرض العقوبة، مُصاحَباً بالدعم والتدعيم الاجتماعي اللازمين للنساء ضحايا هذه الظاهرة عن طريق توفير الأطر الملائمة لذلك. وكذلك التحذير من إسقاطات هذه الظاهرة على جمهور النساء والأطفال، وأحياناً على بعض الرجال وإن كانوا قلة ممن يقعون ضحية لعادات وممارسات اجتماعية يضطرون لخوضها بسبب الضغوطات التي يمارسها مجتمعه عليهم، واتخاذ التدابير اللازمة التي من شأنها الحد من هذه الظاهرة، أضف إلى ذلك تقديم الدعم والمساندة لضحايا تعدد الزوجات عن طريق توفير الدعم القانوني والنفسي والاجتماعي للنساء.

 

الموقف الذي يطالب مؤسسات المجتمع المدني بالعمل على درء الظواهر التي من شأنها أن تمس بجمهور النساء والأطفال عن طريق التوعية اللازمة، هو حتمي في موضوع تعدد الزوجات. حيث أن استطلاع الرأي الذي أجرته جمعية "نساء ضد العنف" في إطار البحث "مواقف من قضايا وحقوق المرأة الفلسطينية في إسرائيل" عام 2005، أظهر أن المجتمع مازال متفهماً لزواج الرجل بأكثر من امرأة واحدة، مشترطاً موافقته بنوعية الأسباب التي تدعو لذلك (إذا كانت الزوجة لا تنجب، إذا كان الرجل ذا إمكانات مادية، إذا أصيبت الزوجة بمرض مزمن ...الخ) حتى أن نسبة من النساء تشرعن زواج الرجل بأخرى في حالات معينة. وهذا الموقف هو الأشد ظلماً للمرأة: حين تنظر إلى نفسها من موقع الثقافة التي يفرضها عليها المجتمع، فتتبنى هذه المعتقدات والتي من شانها أن تمس كرامتها الإنسانية وتجاهر بها علناً من دون إحساس بالاعتداء على حقوقها وكرامتها الإنسانية. هذا هو الخلل الذي على مؤسسات المجتمع المدني عامة والتنظيمات النسوية خاصة العمل على إصلاحه من خلال التوعية للأضرار النفسية والاجتماعية أولاً وثانياً من خلال التشديد على وجوب تطبيق القانون ومعاقبة مخالفيه مصاحبا بإيجاد الأطر اللازمة التي من شانها أن تخفف الأعباء عن النساء ضحايا هذه الظاهرة.

 

 

 

 

 



[1] عماره, الاسلام والمراة في راي الامام محمد عبده, ص 130-131.

[2] نصر حامد ابو زيد, "المراة: البعد القومي المفقود في الخطاب الديني المعاصر" في: هاجر, كتاب المراة: 1 (القاهرة: سينا للنشر, 1993), ص 51-84.

 
 
 
 
 
 
 
إتصل بنا
هاتف : +972(4)6462138
قاكس : +972(4)6553781
[email protected]