مقالات ودراسات

 

 

 

ناقشت المحكمة العليا الشهر الأخير إلتماساً قدمته لجنة العمل للمساواة في قضايا الأحوال الشخصية بإسم أم جردتها المحكمة الشرعية والمحكمة الشرعية للإستئناف من حضانة ثلاتة أطفالها, تبلغ كبراهم العاشرة  وأصغرهم  السابعة من العمر. وكانت المحكمة الشرعية قد إستندت في قرارها الى الفرضية الشرعية التي تقتضي إنتقال حضانة الطفل ما  فوق سن 7 سنوات وطفلة فوق 9 سنوات الى حضانة أبيهم, من باب إنتهاء حاجتهم الى النساء.

 وكان قرار المحكمة الشرعية قد إتُخذ من دون أية إعتبارات واقعية لأوضاع الأطفال, بالإضافة الى تجاهل التقارير المهنية التي أكدت على ضرورة بقاء الأطفال في حضانة الأم, بما يتناقض مع  مبدأ "مصلحة الطفل" الذي يُعتمد عليه كمبدأ أساسي للفصل في قضايا حضانة الأطفال, بموجب القانون الإسرائيلي.

وقد أدعى الملتمسون الى أن نقل حضانة الأطفال الى الأب بمجرد وصولهم الى سن معينة دون فحص مصلحتهم, فيه خرق للإستقرار في حياة الأطفال لفصلهم عن الأم التي كانت حتى ذاك الوقت الشخصية الأساسية في حياتهم, إضافةً الى فصلهم عن البيئة التي إعتادوا عليها, وفرض واقع جديد لم يألفوه , كل ذلك دون أن تتكلف المحكمة فحص ضرورة هذه النقلة في حياة الأطفال, وبتجاهل تام لتقارير الأطراف المهنية التي رافقت العائلة على مدار سنوات عدة.

وفي قرارها أبطلت المحكمة العليا قرار المحكمة الشرعية والمحكمة الشرعية للإستئناف لعدم تطبيهما لقانون الأهلية القانونية والوصاية وقانون مساواة المرأة في الحقوق. ويعتبر قرار المحكمة العليا سابقة قانونية لا من حيث تأكيده على حيلولة هذان القانونان على المحكمة الشرعية ووجوب تطبيقهما في قضايا الحضانة, بل من حيث تصريح العليا بعدم جواز الإستناد الى أي فرضية كانت عند البت في قضايا الحضانة. كما وشدد على أن تطبيق الفرضية الشرعية بإنتقال حضانة الأطفال الى الأب بشكل فوري دون فحص مصلحتهم, يعد خرقاً للقانون.

ينص قانون الأهلية القانونية والوصاية على أنه في حال إنفصال الزوجين أو طلاقهما, يحق للزوجان التوصل الى إتفاق بشأن حضانة اطفالهما. وفي حال عدم توصل الطرفان الى إتفاق, تقتضي فرضية الجيل المبكر بحضانة الأم لأطفالها الذين لم يبلغوا سن السادسة مراعاةً لمصلحتهم. الخلفية التي نشأت على أساسها هذه الفرضية هو أن الأمهات كن المسؤولات, بشكل تقليدي, عن تربية الأطفال وتوفير الظروف المناسبة لنموهم وتطورهم. من ناحية اخرى تكفل فرضية الجيل المبكر التواصل ما بين الاب والأطفال وتبقى المجال امام الاب مفتوحا لمشاهدة اطفاله والحفاظ على علاقته يومية معهم, وفقاً للاتفاق الذي توصل اليه الطرفان, أو وفقاً لقرار المحكمة بشأن مشاهدة الطفل.

اما بعد سن السادسة فينطلق الطرفان, أي الأم والآب, من نقطة متساوية بالنسبة لحقهم بضم الطفل.  ويحق للأب المطالبة بضم الطفل اليه, وعندها على المحكمة أن تقرر هوية الحاضن/ة بناءاً على مبدأ مصلحة الطفل والذي من الممكن أن سيتدل عليه من التقارير المهنية لمأموري الشؤون الذين يكلفون بفحص بدائل الحضانة الممكنة ومدى ملاءمتها لإحتياجات الأطفال. لكن في حقيقة الأمر, من خلال متابعة ملفات الحضانة في أروقة المحاكم نستقرأ أن هنالك تحفظ من فصل الطفل عن أمه, بعد تخطيه سن السادسة,   وذلك حفاظاً على "التواصل" بينهما , وتفادياً للضرر الذي من الممكن أن يحدق بالطفل إذا ما فصل عن أمه التي عملت على تربيته ورعايته خلال السنوات الستة السابقة، وعن البيئة التي إعتاد عليها. لهذا, تقضي المحكمة بنقل حضانة الطفل الى الأب في حالات يتضح فيها عدم قدرة الأم أو كفاءتها للحفاظ على مصالحه وتربيته, ولا تكتفي المحكمة بإدعاءات تدل على أن بديل الحضانة الأخر أفضل من الذي يعيشه الطفل. نقطة الإنطلاق في هذه الحالات تراعي ضرورة وجود إستقرار في حياة الطفل والذي يعد ضرورياً لسلامة نموه وتطوره.

بالمقابل, وفقاً للفرضية الشرعية تنتهي حاجة الطفل الى النساء بوصوله سن السابعة, وبوصول الفتاة الى التاسعة (المادة 380 من كتاب الأجكام الشرعية لمحمد قادري باشا) أي عند إنتهاء حاجتهم لمن يتكفل  بتغذيتهم, والعناية بصحتهم وباقي إحتياجاتهم الجسدية. ولكن, خلافاً لقانون الأهلية القانونية والوصاية, تنتهي فرضية وتبدأ أخرى. أي أن بعد هذا المرحلة تبدأ حاجة الأطفال الى حضانة الرجال بمميزاتها الخاصة مثل إكساب الطفل الصفات الذكورية والقدرة على الحزم وغرس القيم الأخلاقية لدى الطفلة. أما في حالة مطالبة الأم بحضانة أطفالها لدى بلوغهم هذه المرحلة عليها أن تثبت ضياع مصلحة الأطفال بحضانة أبيهم أو خطر فادح قد يلحق بهم, ولن تنتفع بإثبات أن البيئة التي من الممكن أن توفرها هي للأطفال  أفضل من تلك التي سيوفرها الأب.  أي أن على الأم أن تقيم الدليل بما يتعلق بسوء حال الأطفال بحضانة أبيهم, وفي حال لم تنجح بإقامة الدليل, تخسر حضانة أطفالها بشكل فوري.

إن هذه الفرضية وما تنطوي عليه من تقسيم نمطي للأدوار في العائلة, بحيث تنحصر أهمية الأم في تلبية إحتياجات الأطفال الجسدية, ويرصد بموجبها للأب الدور المعنوي لصياغة المبادئ, المفاهيم والقيم التي على أسسها سينشأ الأطفال, كانت لب النقاش في محكمة العدل العليا. تلك هي الفرضية التي من الممكن أن تفصل نساء عن أطفالهن دون أن تمعن المحكمة النظر الى حيثيات هذه العائلة, ودون  أن تراعى مصلحة الأطفال. وفي حالة الأم التي يجري الحديث عنها, حتى بتجاهل صارخ لتقارير الأطراف المهنية التي أكدت على الدور الإيجابي الذي تقوم به الأم في حياة أطفالها, وعن إرتباط الأطفال بها وبرغبتهم الواضحة في حضانتها. 

 هذه الفرضية الشرعية, كما ذكر انفاً, تتناقض مع القوانين المدنية التي تنص بشكل واضح على أن المبدأ الوحيد الذي على المحكمة, سواءاً دينية أو مدنية, أن تطبقه في قضايا الحضانة هو مبدأ "مصلحة الطفل". كما وأن قانون مساواة المرأة في الحقوق يفرض على المحاكم, بما فيها المحاكم الدينية, إنتهاج المساواة بين الجنسين في تطبيقها لقوانين الحضانة والوصاية. وعلى هذا الأساس قررت محكمة  العدل العليا  إبطال قرارات المحكمة الشرعية. 

الإنتقادات التي تدعي بإن إبطال قرارات المحكمة الشرعية يعد تدخلاً وخرقاً لإستقلالية المحاكم الشرعية, تتجاهل بأن المحاكم الشرعية هي جزء من جهاز القضاء الإسرائيلي,  ويحق للمحكمة العليا إلغاء القرارات التي تتخذ  خلافاً  للقوانين المدنية شأنها  تمامًا كشأن محاكم شؤون العائلة المدنية. من المؤك أن مثل هذه الإنتقادات لم تكن لتوجه لو أن موضوع النقاش كان أحد القوانين المدنية الأخرى كقانون العقود, أو غيره من قوانين المعاملات الأخرى.

 ومن خلال البحث إستخلصت لجنة العمل للمساواة في قضايا الأحوال الشخصية  أن الكثير من الدول الإسلامية قد توصلت الى ضرورة خضوع  الفرضية الشرعية الى بعض التعديلات لكي تتلاءم مع مبدأ مصلحة الطفل,  أو حتى إبطالها تماماً مثل تونس, تركيا والكاميرون وغيرها من الدول. حري بنا أن نتعامل مع العصر بمعطياته  والتوفيق بينها وبين المعطيات الدينيه بصورة تحول بيننا وبين الجمود الفكري الذي غالباً ما يأتي بأكله لتعميق مرارة واقع النساء في المجتمع.

غني عن الذكر أن قصة هذه المرأة  ليست المثال الوحيد على عدم تطبيق المحاكم الشرعية للقوانين المدنية الموجهة لها. بل على العكس تماماً, هو بمثابة نهج يحجب عن  النساء حق الإستفادة من القوانين التي تمثل مصالحهن.  إن هذا التجاهل الصارخ للقانون يخلق بشكل واضح واقعاً مميزاً, تستطيع بموجبه النساء المثقفات والمقتدرات إقتصادياً أن يناضلن ضد مثل هذه القرارات, وأما النساء الرازحات تحت الأمية القانونية واللواتي لم يسعفهن حظهن بأن يتواصلن مع مؤسسات حقوق الإنسان يرضخن للإستسلام لما لايعين بأنه غبن بحقهن. بالإضافة الى أن عدم نشر قرارات المحاكم الشرعية يغذي هذا الوضع ويزيده ضراوةً, لعدم رضوخها لأي دراسة تحليلية أو نقد قانوني.

تكمن أهمية هذه النضالات بإشاعتها لوعي اجتماعي بديل  يقر بحقوق المرأة داخل المجتمع والأسرة , ويحد من ممارسة المؤسسات القضائية والمجتمعية المنتهكة لحقوقها.

 

 

 

 
 
 
 
 
 
 
إتصل بنا
هاتف : +972(4)6462138
قاكس : +972(4)6553781
[email protected]