مقالات ودراسات

 

 

اقوم من خلال عملي القانوني في جمعية كيان، بمهامّ المرافعة أمام المحاكم الدينية والمدنية في شتّى المواضيع في مجال الأحوال الشخصية، ومنها دعاوى نفقات الزوجة التي تقدّم، عادةً، ضدّ الزوج.
نحن في كيان نؤمن أنّنا نساهم، من خلال هذه المرافعة، في ترجيح موازين القوّة لصالح النساء، بحيث يقرّبنا ذلك أكثر فأكثر إلى خطّ المساواة. ولمّا كانت النساء العربيات يعانين من أوضاع اقتصاديّة صعبة فهنّ أفقر من الرجال العرب، ويعانين من تمييز مستمرّ على خلفية جندرية وهنّ مستضعفات، وبالتالي تواجهن صعوبات في دفع اتعاب باهظه لمحامي\ه خاص\ه، فإنّ المرافعة الفردية عن كلّ امرأة وامرأة من شأنها أن تحسّن وضعها، وبذلك نكون قد حقّقنا هدفًا إضافيًّا وهو تحسين وضع المرأة على المستوى الفرديّ.
لكنني أواجه في أحيان كثيرة خلال عملي القانوني تخبّطات عدّة، سببها حالات التناقض التي اواجهها احيانا بين المبادئ النسوية التي أؤمن بها وأمثّلها وبين الطريق التي اضطر الى قطعه لأجل تحصيل حقوق النساء والمتعلقة احيانا باختياري للمحكمة المفضل التوجه اليها.
سأقدّم في البداية لمحة قصيرة عن الوضع القانوني في قضايا نفقة الزوجة، ثمّ سأطرح تخبّطاتي، وأنهي برأيي الشخصي فيهما.

نفقة الزوجة- خلفيّة قانونية:
"واجب النفقة الملقى على الزوج تجاه زوجته هو نتيجة الزواج وجزء من مجمل الواجبات الناجمة عن الحياة الزوجية والتي يكون الرجل ملزمًا بها تجاه زوجته.... الحق بالنفقة للزوجة متعلّق بتصرّفات المرأة وفق المطالب التي يحدّدها القانون الشخصي (الديني)"
للمرأة العربية المسلمة، المسيحية والدرزية الحقّ في تقديم نفقة زوجيّة ضد زوجها الذي لا يقوم بالإنفاق عليها ولها إمكانية تقديمها في محكمة شؤون العائلة (في ما يلي أيضًا: محكمة مدنية) أو في المحكمة الدينية صاحبة الصلاحية وفق ديانة المتداعيين.
واجب النفقة الزوجية محدّد في القانون الشخصي (المقصود به هو القانون الديني الساري المفعول على أطراف تنتمي إلى الديانة نفسها)، والقانون الشخصيّ هو القانون الملزم في الدعاوى المقدّمة لدى المحكمتين الدينية والمدنية .
هذا يعني أنّ محكمة شؤون العائلة ملزمة بتطبيق القانون الشخصي عندما تنظر بدعوة نفقة زوجة (وأولاد).
يشار إلى أنّ الزوجة تستحقّ النفقة في أثناء الحياة الزوجية فقط، ووفقًا للشروط التي يحتّمها القانون الشخصيّ.
إنّ معظم قوانين الأحوال الشخصية الدينية، بما فيها الشرعية، المسيحية والدرزية، تمنح الزوجة نفقة وفقًا لشروط ومبادئ اجتماعية أو أسرية محافظة ترتكز على الاختلافات بين الجنسين وتقسيم وظائف واضحة ومنفصلة بين الرجل والمرأة.
على سبيل المثال، قانون الأحوال الشخصية الكنسيّ للمسيحيين الأرثوذكس يشترط قيام الزوجية وبقاء الزوجة في بيت الزوجية لتلقّي النفقة. في حال تركت الزوجة البيت "دون سبب معقول" تسلب منها نفقتها .
وهكذا، بالتشابه، يحدّد القانون الشرعيّ شرطين لاستحقاق الزوجة نفقتها، وهما وجود عقد زواج صحيح بين الرجل والمرأة وواجب الاحتباس الملقى على المرأة.
إنّ الاحتباس ينطوي على تكريس المرأة لزوجها، وتعدّ النفقة تعويضًا للمرأة عن عدم قدرتها على العمل وكسب المال .
إنّ معنى النشوز هو مخالفة الزوج وخروج الزوجة من البيت دون سبب "شرعي" أو "قانوني"، مثل ترك البيت وعدم الرغبة في العودة إليه . إنّ أحد الأسباب الشرعية التي من شأنها إعفاء المرأة من واجب الاحتباس والتي تحجب عنها ادّعاء النشوز هو العنف الذي على أثره تركت المرأه بيت الزوجية (هناك أسباب أخرى، أيضًا).
وعليه، بعد أن تقوم المرأة بتقديم دعوة نفقة زوجية في إحدى المحاكم، الادعاء المضاد أو المدافع من قبل الزوج الأكثر انتشارًا هو ادّعاء "النشوز" أو عدم "طاعة الزوج" من قبل الزوجة.
تأتي دعوة "طاعة" منفصلة، في الكثير من الأحيان، على أثر دعوة نفقة زوجة، وذلك علمًا بأنّ لنتائج دعوة الطاعة تأثيرًا على دعوة النفقة، وقد تؤدّي إلى سلب حقّ النفقة من الزوجة.
إنّ قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية ينص هو أيضًا على شروط مشابهة للغاية ويتطرّق إلى مصطلح "النشوز" الذي يمنع الزوجة حقّها في النفقة .

التخبّطات:
أودّ هنا طرح تخبّطين أساسيين اواجههما في عملي:
الأوّل: كامرأة وكمحامية نسوية تتردّد كثيرًا على المحاكم المختلفة، وتترافع عن نساء في قضايا نفقات زوجات، كيف لي أن أهرب من تلك اللغة الأبوية التي تصوّر النساء كمخلوق ثانويّ، خاضع، مطاطئ الرأس وعليه واجب "طاعة" الآخر كأساس لتلقّي حقوقه؟
وثانيا: كيف أختار المحكمة التي من المفضّل التوجّه إليها، وكيف يتمّ تطبيق قانون الأحوال الشخصية الديني في المحاكم المدنية؟ وهل إمكانية التوجه للمحاكم المدنية قرّبت النساء من المساواة المنشودة؟
بالنسبة إلى التخبّط الأوّل:
إنّ تعديل قانون شؤون العائلة الذي فتح أبواب محاكم شؤون العائلة للنساء المسلمات والمسيحيات لم يأتِ بفائدة في هذه المعضلة، إذ إن القانون المطبّق، حتى في هذه المحاكم، هو القانون الشخصيّ (كما ذكر أعلاه). ولذلك، إنّ استخدام هذه اللغة الأبوية (المناقضة لمبدأ المساواة) هو أمر لا بدّ منه في المحاكم المدنية، وذلك حتى لو افترضنا أنّ المحكمة المدنية قد تطبّق القانون الشخصي بشكل مختلف عن المحاكم الدينية.
اذن، كيف لي كنسوية أن أحسم هذا التخبّط، وهل هناك مخرج "ناجح" من ذلك المأزق الأخلاقي؟
ربما المشكلة الحقيقية هي ليست باستعمال اللغة الابوية فقط بل بالمبنى القانوني لحق الزوجة في النفقة الذي يفرض على كل من الزوجين حقوقا وواجبات لا تتماشى مع مبدأ المساواة.
ربّما يكون الحلّ النهائيّ لهذا المأزق هو إبطال مبدأ نفقة الزوجة واستبداله بمبدأ "الموازنة المالية أثناء الحياة الزوجية"، الذي يلزم كلّ واحد من الزوجين بالانفاق على الزوج الأكثر فقرًا أو أقلّ كسبًا (سواء أكان امرأةً أم رجلاً).
أو لربّما حلّ اخر هو على الأقلّ تعديل القانون بقانون نفقة مدنيّ يصبو إلى المساواة بين الزوجين، ويهجر مبادئ دينية قديمة.
في رأيي، لا بدّ من السعي إلى إيجاد حلّ جذريّ لهذا الموضوع لتجاوز هذه القضية الأخلاقية.
أمّا بالنسبة إلى التخبّط الثاني، المتعلّق بما يجري في محاكم شؤون العائلة اليوم، فنحن نلحظ أن هناك بداية لتطبيق مبادئ مدنية خارجة عن القانون الشخصيّ، مثل المساواة واحكام النزاهة والاستقامة، بينما من الجهه الأخرى، لا يتمّ التنازل عن اللغة الأبوية والمصطلحات والاقتباسات من القانون الشخصيّ مثل: النشوز والاحتباس والطاعة.
وهكذا، مثلاً، في قرار للقاضية أسبرانسا ألون من محكمة شؤون العائلة في الكرايوت ، فقد ردّت دعوة زوجة مسلمة لنفقة زوجة لعدّة أسباب، ومنها أن للزوجة قدرة على تقاضي الأجر، الذي يجب أخذه في الحسبان بهدف تطبيق مبادئ المساواة والاستقامة وغيرها. وفي قرار آخر للقاضية مارينا ليفي من محكمة شؤون العائلة في الكرايوت، أيضًا، فقد ردّت دعوة امرأة مسيحية لنفقة زوجة لأن لهذه الزوجة دخلاً يوازي دخل الزوج، وقد استندت في ذلك على القانون الشخصي، وكذلك على مبادئ مدنية أخرى.
وهذا يقودني إلى تساؤل آخر، وهو: هل التوجّه إلى محاكم شؤون العائلة هو بمثابة نعمة للنساء العربيات أم نقمة؟
إنّ المرأة التي تتوجّه إلى محكمة دينية تضطرّ، من جهة، إلى التعرّض للغة المنصوصة في القانون وإثبات دعواها، بما في ذلك إثبات عدم نشوزها، ولكنها، تتمتّع، من جهة أخرى، بنوع من "اليقين القضائي". على أن أمر التوجّه إلى محكمة شؤون العائلة لا يعفيها من تطبيق القانون الشخصيّ، وربما لن تتمتّع بكامل الشروط القانونية التي يمنحها القانون الشخصي.
على سبيل المثال، إنّ المرأة المسلمة التي تتوجّه إلى المحكمة الشرعية من حقّها تلقّي نفقة زوجة إذا استوفت كلّ الشروط، حتى ولو كانت غنية ولديها مال، بينما لو توجّهت إلى محكمة شؤون العائلة فقد تردّ دعواها إذا قامت المحكمة بتطبيق القانون المدني ومبدأ المساواة في ما يتعلّق بالدخل.
فما هي الاستشارة القانونية التي يجب أن أقدّمها للمرأة المتوجّهة إليّ بالنسبة للمحكمة الأفضل لتقديم الدعوى فيها؟ هل هي المحكمة الدينية التي ستطبّق القانون الشخصي بمجمل "سلبيّاته" و"إيجابياته"، أم محكمة شؤون العائلة التي قد تطبّق مبادئ مساواة جزئية؟
هل تطبيق المساواة بشكل جزئيّ، بحيث يكون ساري المفعول على الحقوق وليس على الواجبات أو العكس سيقودنا إلى المساواة المطلوبة أو الصحيحة؟
في اعتقادي، ورغم محاولات المحاكم المدنية التعامل مع قضايا الأحوال الشخصية بطرق أخرى، فطالما بقيت النساء عامةً والنساء العربيات خاصة، مستضعفات وفقيرات أكثر من الرجال، وطالما لم نصل إلى المساواة المنشودة ، لا يجوز تطبيق المساواة بشكل جزئيّ فقط، لأنّ هذا الأمر يخلق وضعًا قانونيًّا مركّبًا وبعيدًا عن العدل. إنّ التطبيق الصحيح لمبدأ المساواة يحتّم إجراء تغيير جذريّ للمعايير القانونية القائمة، ويحتّم إجراء فحص عميق لوضع النساء الاجتماعي والاقتصادي، كما يحتّم، بشكل مُلحّ، إجراء نقاش عامّ صريح وجريء حول هذه القضيّة.

 

 
 
 
 
 
 
 
إتصل بنا
هاتف : +972(4)6462138
قاكس : +972(4)6553781
[email protected]