مقالات ودراسات

 

محمد حاج يحيى[1]

مقدمة

إنّ الاهتمام الجماهيري، الأكاديمي والمهنيّ بمشكلة العنف ضدّ النساء في العائلة، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، قد قوّض أسطورة "الزواج المنسجم" و"الانسجام داخل العائلة"، اللذين يميّزان، افتراضًا، العائلة الخالية من الصراعات، وقد نسف الادّعاء القائل بأنّ "العائلة السّليمة" هي العائلة التي لا تتواجد فيها صراعات. تفيد التجربة المهنية (التدخّلية، العلاجية، الرادعة وغيرها) والتجربة البحثيّة، أنّ الصراعات بين الأزواج، كما هي الحال في انسقة ومنظومات اجتماعية أخرى، لا يمكن تفاديها، وهي جزء لا يتجزّأ وعضويّ من هذه المنظومات. الحركات النسائية عمومًا، والحركة النسوية خصوصًا، حركات حقوق الإنسان، حركات المساواة في المجتمع، الحركات المناهضة للحروب وكذلك الباحثون الأكاديميون والمهنيون العلاجيون من تخصصات ومجالات مختلفة، ساهموا كثيرًا في الكشف عن مشكلة العنف ضد النساء في العائلة التي اعتبرت في السابق قضيّة غير مُكترث بها، كما ساهموا في تقويض الأسطورة القائلة بأنّ العائلة السليمة والعلاقات الزوجية لا تعتريها الصراعات.  

 

سأحاول في هذه المقالة الادّعاء، باقتضاب، أنّ المبنى الأبويّ للمجتمع الفلسطيني في إسرائيل، شأنه في ذلك شأن جميع المجتمعات الأبوية والتقليدية، وأن انعدام المساواة بين الرجال والنساء، الذي هو نتاج هذا المبنى، هما مشكلة جذرية ومركزية. وفي الوقت نفسه، فإنّ المبنى الأبوي وانعدام المساواة يحدّان من قدرة، وحتى من إستعداد، شرائح وعناصر كثيرة في المجتمع على مساعدة النساء اللواتي يقعن ضحية للعنف الموجّه ضدهن في العائلة[2]. إن ادعائي المركزي هو أن انعدام المساواة والجنسوية في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل يخلقان العنف ويجعلان الرجال يستخدمون العنف ضد زوجاتهم بُغية الحفاظ على مكانتهم وتعزيزها داخل العائلة، ومن أجل تحصيل، والحفاظ على جميع الامتيازات التي يُكسبهم إياها المجتمع الأبوي لمجرّد كونهم رجالاً. كما أنّني سأدّعي أن المبنى الأبوي للمجتمع الفلسطيني يضرّ بإمكانيات منح النساء المضروبات وأولادهنّ الخدمات التي تلبّي احتياجاتهن واحتياجات أولادهنّ للأمان الجسديّ والنفسيّ.

 

سأركز في هذه المقالة على العلاقة بين المبنى الأبوي للمجتمع الفلسطيني في إسرائيل، انعدام المساواة بين الجنسين واساءة معاملة الزوجة. إن هذا لا يعني انكار دور دولة إسرائيل في اتاحة الظروف لنمو المبنى الأبوي بواسطة عدم معالجة مشكلة انعدام المساواة بين الجنسين لدى الأقلية الفلسطينية بشكل جدي، وكذلك فشلها بتوفير علاج ملائم، كاف وعادل لضحايا العنف العائلي، كما يلزمها القانون المحلي والدولي.

 

 لا شكّ في أنّ العنف ضدّ النساء هو مسّ بحقوق الإنسان الأساسية الخاصة بهن. توجد لانعدام المساواة بين الجنسين في المجتمعات الأبوية، من قبيل المجتمع الفلسطيني، جذور تعود إلى المبنى الاقتصادي، الاجتماعي، الديني، السياسي والتربوي داخل المجتمع والدولة. من الممكن، طبعًا، أن نتخيّل وضعًا تفضل فيه مجموعات في المجتمع، أو بعض الأفراد، علاقات قائمة على المساواة بين النساء والرجال، بعيدة عن الايديولوجيا الأبوية. لكن كون هذا التفضيل صادرًا عن دوائر أو جهات قليلة في المجتمع الفلسطيني وغير مُرسَّخ في المبنى الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي، القانوني، الديني أو التربوي لهذا المجتمع، فسيؤدي لاستمرار سيطرة الرجال على النساء واستمرار العنف ضدّهن. وبالتالي سيستمر المس بالحقوق الأساسية للنساء وستبقى احتمالات تلبية احتياجات ضحايا العنف داخل العائلة محدودة.

 

الأبوية وانعدام المساواة في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل كعامل خطر للعنف ضد النساء وكحاجز لمنع المشكلة ومنع معالجتها

بالاستناد إلى الإطار المفهومي الخاص بستراوس[3]، هناك، في الأقلّ، ثمانية توجّهات تفسّر كيف أنّ المبنى الأبوي يخلق عنفًا على نطاق واسع ضدّ النساء، وفي الوقت نفسه يمنع ويعيق تقديم العون المناسب للنساء المضروبات. سنحاول هنا الاستفادة من هذا الإطار بُغية تطوير ادّعائنا في الموضوع ضمن سياق المجتمع الفلسطيني في إسرائيل.

 

1.الدفاع عن صلاحية وسلطة الرجل : يمنـح المبنى الأبـوي الذي يميّــز المجتمـــع والعائــــلة الفلسطينيين الرجل صلاحيّات فائضة ويدافع عنها. في رأيي، يمنح المجتمع الفلسطيني الرجل الصلاحية والسلطة في الحيّز العائلي وفي الحيّز الجماهيري على حدّ سواء، وهو يحمي هذه الصلاحية بوسائل عدّة. فمن أجل حماية هذه الصلاحية، يعزو المجتمع الفلسطيني، كما هي الحال في جميع المجتمعات الأبوية الأخرى، إلى الرجال موارد "عليا"؛ سمات شخصية من التفوّق، المهارات والقدرات الخاصة – افتراضًا – بالرجال، مثل الذكاء، الحكمة، سداد الرأي، المعرفة، المكانة المهنية، القدرة على الإعالة وغيرها. وفي المقابل، يتوقّع المجتمع من الرّجال أن يكونوا أكثر طموحًا من النساء، أكثر قدرة على الوصول إلى تحقيق الذات مقارنة بالنساء، وأن يكونوا أصحاب هيمنة أكبر وأوسع من هيمنة النساء، وأن تكون هذه الهيمنة، خصوصًا، على النساء[4]. ونتيجة لذلك، يرى الكثير من الرجال في المجتمع الفلسطيني في أيّ تهديد لهذا التفوّق المُكتسب ولما هو في مفهومهم وفي مفهوم المجتمع عمومًا امتيازات رجالية، بمثابة تبرير لاستخدام القوة والعنف كوسيلة لـ"ترميم" مكانة الرجل[5].

 

عمليًّا، لقد وجدت في الأبحاث التي أجريتها في هذا الموضوع عمومًا، أنه كلما تمسك الرجال بمفاهيم ومواقف تتّسم بطابع أبوي (مثلاً: الجنسوية، المواقف السلبية من النساء، توقّعات من الرجال والنساء غير قائمة على المساواة في المجتمع عمومًا وفي إطار العائلة خصوصًا)، كلما دام تبريرهم العنف ضدّ النساء، وازداد ميلهم إلى اتّهام النساء، تحديدًا، بالعنف الواقع عليهنّ من قبل أزواجهن[6]. زِد على ذلك، أنّ مثل هؤلاء الرجال يميلون إلى اعتبار عنف الرجل المُمارس ضدّ زوجته بمثابة مسألة خاصة ضمن العائلة، ويعارضون تدخّل جهات من خارج العائلة (رسمية وغير رسمية) في العلاقات القائمة بين الرجال العنيفين ونسائهم المضروبات. إنّ مثل هذا التدخّل مطلوب لحماية المرأة المضروبة ودعمها من جهة ولمعالجة الرجل العنيف ومعاقبته[7] من جهة اخرى. بالإضافة إلى ذلك، تَبيّن أن الرجال الذين يمارسون العنف ضدّ زوجاتهم، إن كان ذلك في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل أو في المجتمعات الأبوية الأخرى، يميلون إلى التمسّك بمفاهيم أبوية: إنّهم يبرّرون انعدام المساواة بين الرجال والنساء عمومًا وبين الأزواج خصوصًا، كما أنّهم يتمسّكون بتوجّهات سلبية وتقليدية تجاه النساء[8].                                                                                                    

 

2. الرجولية القسرية: إن المجتمع الفلسطيني، شأنه شأن بقية المجتمعات الأبوية في العالم، يميل إلى تشجيع جـَتمـَعة الرجولية القسرية والتربية عليها.[9] فمنذ سنّ مبكّرة جدًّا تتمّ تربية الأبناء على الحفاظ على رجوليّتهم والخجل من التصرّفات التي ينظر إليها المجتمع على أنّها تصرفات نسائية أو طفوليّة. ونتيجة لذلك، يبدأ الأبناء بتطوير عدائية تجاه البنات والنساء، وفي الوقت نفسه، يتعلّمون التمسّك برجوليّتهم بشكل قسريّ. يكون العداء ضدّ النساء مصحوبًا برغبة عارمة في إخضاعهنّ، إهانتهنّ، في النظر إليهنّ كوضيعاتٍ والتعامل معهنّ بعدائيّة[10] وعدوانية. تظهر هذه المفاهيم المغلوطة، في كثير من الأحيان، في أساس تعامل المجتمع مع النساء المضروبات (اللواتي يُعتبرن متمرّدات، متعنّتات، غير مطيعات، مستفزّات، وغيرها) حتّى إنّها تؤثّر في تعامل مهنيين كثيرين في المجتمع الفلسطيني مع النساء اللواتي وقعن ضحايا العنف العائلي. في الكثير من الأحيان، يضع تعامل المهنيين والمجتمع مع النساء المضروبات عراقيل كَأْداء في الطريق إلى تقديم العون والمساعدة، الدّعم والحماية لهنّ ولأولادهنّ[11].

 

3. الاضطراريات الاقتصادية والتمييز ضد النساء: تعاني النساء من اضطراريات اقتصادية ومن التمييز ضدهن، وهي عادة ما تُفرض عليهن أكثر من الرجال، إن كان داخل العائلة أو خارجها. إن المبنى الاقتصادي والتشغيلي غير القائم على المساواة الخاص بالمجتمعات الأبوية، بما فيها المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، يُبقي في يد النساء بدائل قليلة جدًّا. حيث إنّ الأشغال والوظائف المتاحة أمام النساء عمومًا هي متدنية من ناحية المكانة مقارنةً بتلك المتاحة للرجال. ونتيجة لذلك، ولأسباب أخرى، تتقاضى النساء الفلسطينيات أجورًا أدنى من أجور الرجال الذين يعملون في أشغال ومهن مشابهة. فمن دون توفر إمكانية الوصول الى وظائف "جيّدة"، ستظلّ النساء معتمدات اقتصاديًّا على أزواجهن. وتعتبر التبعيّة الاقتصادية أحد الأسباب التي تُكره النساء المضروبات على مواصلة العيش مع الزوج العنيف. إذ إن الطلاق أو الانفصال بالنسبة إليهنّ يعني الفقر[12].

 

4. عبء تربية الأولاد الملقى على كاهل النساء: إن مسؤولية تربية الأولاد في المجتمع الفلسطيني ملقاة، غالبًا، إن لم يكن دائمًا، على عاتق النساء. فالمجتمع والدولة على حد سواء لا يقومان بدعم النساء لمواجهة هذا العبء حيث لا يتوفر لهن الدعم الكافي من الناحية الاقتصادية أو من ناحية تقديم خدمات كحضانات للأطفال. إن هذا التوزيع المفتقر إلى المساواة في التشغيل والأشغال في المجتمع، يلقي على المرأة كامل المسؤولية في تربية الأولاد. وفي الوقت نفسه، لا يوفر لها المجتمع مردودًا اقتصاديًّا لقاء ذلك (ناهيك عن غياب التقدير الاجتماعي والأخلاقي على الاضطلاع بهذه المهمة الحيوية). وعليه، تُضطر المرأة العاملة، التي تكسب في جميع الأحوال أقلّ من الرجل، إلى تحمل عبء تكاليف الحضانات وعبء مصاريف أخرى. بكلمات أخرى، إن التمييز التشغيلي، غياب الدعم في رعاية الأولاد وشحّ المساعدة على تربيتهم – أكان ذلك من مصادر رسمية حكومية أو من الزوج – تُكره المرأة على البقاء متزوّجة، حتى إذا كانت ضحيّة لعنف زوجها.

 

5. أسطورة العائلة الأحادية الوالدين والتعامل السلبيّ مع الطلاق: إنّ العُرف الاجتماعي الآخر، الذي يساعد في الحفاظ على خضوع ودونية النساء، هو فكرة أن الأولاد لا يمكن أن يكبروا بشكل لائق وسليم بصحبة والد واحد، فكم بالحري إذا كان ذلك بصحبة الأم فقط، دون الأب. كما هو معلوم، عند حدوث الطلاق وفي العائلات الأحادية الوالدين عمومًا، يسكن الأولاد، غالبًا، مع الأم لا مع الأب. العُرف الاجتماعي يعترض على الطلاق ويشجع المرأة المعنيّة بالأولاد على العيش مع الرجل والبقاء زوجة له. صحيح أن ثمة نقاشات تدور بين باحثين واختصاصيين حول تأثير العيش الذي يغيب عنه الأب أو الأم على تطور الأولاد، غير أن أبحاثًا كثيرة أثبتت أن العيش مع أب وزوج عنيف يضرّ بتطوّر الأولاد الشعوري، الانفعالي، الذهني والسلوكي؛ يضاف إلى ذلك، بالطبع، التأثير الهدّام للعنف على المرأة نفسها وعلى أدائها لدورها كأم[13]. ورغم ذلك، يتسبّب الإعتقاد السائد بأن الأولاد يتطوّرون، بشكل مثالي، عندما يكبرون في بيت فيه أب وأم، بشعور غالبية النساء بشيء من الإكراه على مواصلة العيش مع أزواجهن، حتى لو كانوا عنيفين. وتتردّد النساء المضروبات في المبادرة إلى الطلاق ويشعرن بنوع من واجب "الارتباط مع الرجل"، بدافع الخوف من ردة فعل المجتمع الذي يُقصيهن، من جهة، وبدافع الخوف من الفقر، من جهة أخرى. للأسف الشديد، إن فكرة أهمية الأب في تطور الأولاد السليم، حتى العنيف منهم، وغياب الدعم للنساء المضروبات والضغط الاجتماعي الممارس ضدّهن، الذي يطالب بأن يحافطن على زواجهن وعلى عائلتهن، تشكّل مجتمعةً ضغطًا كبيرًا جدًّا على كثير من النساء المضروبات يؤدّي إلى مواصلتهنّ العيش مع الزوج العنيف.

 

6. المفاهيم التقليدية في ما يتعلّق بدور المرأة كزوجة وأمّ: إن دور المرأة كزوجة وأم هما الوظيفتان الوحيدتان، والأكثر أهمية، اللتان يُخصّصهما المجتمع الفلسطيني الأبوي للمرأة ويعترف بهما، مثله مثل باقي المجتمعات التقليدية الأبوية في العالم. المرأة، وفق هذا المفهوم، لا يُمكن أن تُحسب أو أن تشعر بأنها "كاملة، حقيقية وناجحة" إذا لم تكن متزوجة. أما في ما يتعلّق بالرّجل، في المقابل، فتتوفّر لديه إمكانيّة أن يختار ما إذا كان سيستثمر موارد جمّة أو قليلة في أداء وظيفتيه كرجل وأب؛ الاختيار مشروط، طبعًا، بمصالحه، بمفهومه الشّخصي والذاتي بالنسبة إلى قواه ومهاراته وكذلك بالظروف الاقتصادية، التشغيلية، السياسية، الثقافية أو الدينية التي تميّز محيطه. يمكن القول، عمومًا، إن المجتمع الأبوي يُبدي تساهلاً وتسامحًا في تعامله مع الرجل الهارب من أداء وظيفته كزوج، أكثر مما يبدي تجاه المرأة التي تتملّص من وظيفتها كزوجةٍ. حتى إن وصمة العار التي تلزم الرجل الفرد أو المطلّق أشدّ وهنًا بكثير من تلك الوصمة المنسوبة إلى المرأة غير المتزوّجة، والتي تعيش وحدها أو مع أبنائها. يُنظر الى هذه المرأة كمن لا تقوم بأداء وبتنفيذ ما هو متوقّع منها تقليديًّا كزوجة، كأم، وكامرأة بوجه عامّ. إن تعلّقها بهذه المفاهيم المحافظة والتقليدية كأساس للمكانة "المحترمة" في المجتمع، يصعّب عليها مقاومة العنف المُمارس عليها. تشعر المرأة الفلسطينية في مثل هذه الحال بأنه قد فُرض عليها أن تواصل تحمل العنف، وبالتالي يكون من الصعب عليها أن تضع حدًا لهذا الزواج.

7. المفهوم الذاتي السلبي: إن المبنى الاجتماعي الأبوي، المفتقد للمساواة والجنسوي القائم في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، كما هي الحال في جميع المجتمعات الأبوية والتقليدية الأخرى، يحمل في طيّاته خطرًا، كامنًا على الأقل، لتطوير مفهوم ذاتي سلبي لدى النساء (وبنفس القدر، ثمة احتمال بأن يشعر الرجال بخطر وتهديد على الامتيازات الرجالية الخاصة بهم، ولذلك فإنهم سيتصرفون بشكل عنيف بُغية الحفاظ على "حقوقهم"). هذا الخطر قائم بشكل خاصّ بسبب وجود ميزة تعتبر حيوية جدًّا في المجتمع – الطموح والإنجازات – تتعلق بالرجولية أكثر من تعلقها بالنسائية. إن تشديد المجتمع على هذه الميزة يعتبر بمثابة رسالة ذات مغزى يتمّ نقلها للمرأة، تقول: "لن ينتهي العالم في حال تنازلت لزوجك الذي يعمل ويشقى"، "يجب أن تدعمي زوجك في عمله وفي تحقيق طموحاته، حتى لو كان ذلك على حساب طموحاتك" وغيرها. لا تقتصر هذه الرسائل ذات المغزى على البيئة الخاصة، الشخصية والعائلية في المجتمع الفلسطيني فحسب، وإنّما، تتعدّى ذلك إلى البيئة العامّة، وهي تنعكس من خلال المكانة المتدنّية للمرأة في حياتها الشخصية والعائليّة، وكذلك – ولربّما في الأساس – في المبنى الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي، التربوي والديني للمجتمع الفلسطيني ككلّ. وثمة إنعكاس آخر لذلك، هو، بالطبع، غياب المساواة في الفرص المتاحة للنساء، مقارنة بالرجال، في هذه المجالات كافة. إنّ المرأة التي تعارض مثل منظومة الأعراف هذه وترفض المسّ بصورتها الذاتية تُعتبر متمرّدة، متعنّتة، أنانية ومتعجرفة في نظر عناصر كثيرة في المجتمع عمومًا، وفي نظر زوجها خصوصًا. تُعدّ هذه الميزات بمثابة ميزات غير مرغوب فيها، لا بل مرفوضة في المجتمع الفلسطينيّ، كما هي الحال في مجتمعات كثيرة في العالم وخصوصًا في المجتمعات الأبوية ولدى بُنى أبوية في المجتمع[14]. لا غرابة، إذًا، أنه في ظلّ علاقة زوجية تتّسم بوجود هوّة فيها بين المفهوم الذاتيّ والصّورة الذاتيّة للمرأة الفلسطينية وبين المفهوم الذاتي والصّورة الذاتية للزوج، لصالح الزّوجة، وحيث مستوى تحصيل المرأة العلميّ أعلى ممّا هو لدى الزوج، وكذلك فإنّ مواردها ومهاراتها أغنى ممّا هو لديه، إضافة إلى أنها تتمتّع في حلقات اجتماعية معيّنة بحفاوة أكبر منه وهي متجذّرة هناك أكثر منه... أن تكون الزوجة، عمومًا، عرضةً لخطر كبير في أن تكون مُهانةً ومضروبةً من قبل زوجها، أكثر من امرأة ذات مكانة اجتماعية، اقتصادية، تربوية وسياسية أدنى ممّا هو لدى زوجها[15].

8. التوجّه الأبويّ والرجوليّ في أجهزة خدمات الرفاه، الصحة، الصحة النفسية والقضاء في إسرائيل: لا يمكن أن نعزو غالبية عنف الرجال تجاه زوجاتهم إلى المبنى الأبوي عديم المساواة للمجتمع فحسب، بل، كذلك، الى المعاملة المهينة وتوجيه إصبع الاتهام الذي تتعرّض له المرأة المضروبة عندما تتوجّه لتلقّي الحماية، المشورة، التوجيه، الدعم والمساعدة الاقتصادية والقضائية من دوائر الخدمات المختلفة. وتبرز، من الجهة الأخرى، المعاملة المتسامحة والمتهاونة التي عادة ما يحصل عليها الرجل العنيف. فنحن نسمع غير مرّة عن المعاملة المهينة التي تتعرّض لها النساء المضروبات من قبل دوائر الخدمات الاجتماعية، الصحية والقانونية وغيرها، والتي هي نتاج الفكر الأبوي والتوجّه الرجاليّ لدوائر الخدمات هذه، حتى في حال تمّ التعبير عنه من خلال نساء يعملن في هذه الدوائر. تنمّي هذه المعاملة لدى كثيرات من النساء المضروبات في المجتمع الفلسطيني، في نهاية المطاف، شعورًا بانعدام الحيلة، بفقدان الأمل، بفقدان القدرة والوقوع في شرَك اجتماعي ونفسي، وقليلات منهن، فقط، يبحثن عن حلٍّ ما في دوائر الخدمات هذه، حتى إذا كنّ يعانين عنفًا حادًا. ينعكس هذا التعامل المهين بأن المساعدة الأولية المقدّمة للنساء المضروبات (العلاج الطبي، مثلاً) تكون مصحوبة، في أحيان متقاربة، بكثير من الوعظ والجهود الرامية إلى إقناعهن بالعودة إلى أزواجهن العنيفين والحفاظ على الإطار العائلي وإلقاء التهمة على المرأة والتعبير عن التفهّم والتساهل تجاه الزوج العنيف، وغيرها. إن هذه العبر تصاحب المرأة طوال عملية تقديم العون المطلوب. كلّ ذلك، كما ذُكر، يردع الكثير من النساء الفلسطينيات عن التوجّه إلى دوائر الخدمات هذه، وهو بذلك يساهم في استمرار العنف الواقع عليهن[16].

                           

خلاصة

لا أوهم نفسي ولا أدّعي أن تغيير المبنى الأبوي في المجتمع الفلسطيني وتحقيق المساواة بين النساء والرجال في الحيّزات الخاصة والاجتماعية في هذا المجتمع سيمنعان العنف الموجّه ضد النساء. إنني على ثقة بأن هناك عوامل أخرى للعنف ضدّ النساء ولإعاقة عملية منح الخدمات وتقديم مساعدة لائقة للنساء المضروبات. العنف ضدّ النساء هو مشكلة متعدّدة الأوجه والأبعاد، وعليه، فإنّ له عوامل وأسباب عديدة بما فيها السياسات التي تتبعها الدولة. ينتج عن ذلك، أنّ حلول المشكلة كثيرة وليست، بشكل حصري، نتاج المبنى الأبوي للمجتمع. ومع ذلك، لا شكّ في أن تغيير المبنى والفكر الأبويين للمجتمع الفلسطيني سيساهم، بشكل جدّي وملموس، في تحسين صورة المرأة ومكانتها في المجتمع، عمومًا، وداخل العائلة خصوصًا، فيترتّب على ذلك، أيضًا، تغيير التوقّعات منها. مثل هذا التغيير سينعكس في أبعاد كثيرة في المجتمع، من بينها البعد الاقتصادي، التربويّ، السياسيّ والدينيّ، ومكانة المرأة في كلّ واحد من هذه الأبعاد. وبذلك يستطيع أن يُحدث تحسّنًا ملحوظًا في نظام الخدمات المتوفرة للنساء المضروبات ولأولادهنّ وفي المساعدة المقدّمة لهم.

 

 

 

المراجع:

 

Dobash, R.E., & Dobash, R.P. (1979). Violence against wives. New York: The Free Press.

Dobash, R.E., & Dobash, R.P. (1992). Women, violence, and social change. London: Routledge.

Gerber, G.L. (1995). Gender stereotypes and the problem of marital violence. In L.L. Adler &  F.L. Denmark (Eds.), Violence and the prevention of violence (pp. 145-155). Westport, CT: Praeger Publishers.

Haj-Yahia, M.M. (2000). The incidence of wife abuse and battering and some sociodemographic correlates as revealed in two national surveys in Palestinian society. Journal of Family Violence, 15(4), 347-374.

Haj-Yahia, M.M. (2002a). Attitudes of Arab women toward different patterns of coping with wife abuse. Journal of Interpersonal Violence, 17(7), 721-745.

Haj-Yahia, M.M. (2002b). The approach of Palestinian physicians toward wife-beating. Ramallah, Palestinian Authority: Bisan Center for Research and Development. Unpublished report submitted to the Ford Foundation.

Haj-Yahia, M.M. (2003). Beliefs about wife beating among Arab men from Israel: The influence of their patriarchal ideology. Journal of Family Violence, 18(4), 193-206.

Haj-Yahia, M.M. (2005). Can people’s patriarchal ideology predict their beliefs about wife abuse? The case of Jordanian men. Journal of Community Psychology, 33(5), 545-567.

Onyskiw, J. E. (2003). Domestic violence and children’s adjustment: A review of research. Journal of Emotional Abuse, 3(1/2), 11-45.

Smith, M.D. (1990).     Patriarchal ideology and wife beating: A test of a feminist hypothesis. Violence and Victims 5(4), 257-274.

Straus, M. A. (1980). Sexual inequality and wife beating. In M. A. Straus &
G. T. Hotaling (Eds.), The social causes of husband-wife violence (pp.
86-93). Minneapolis, MN: University of Minnesota Press.

Sugarman, D.B., & Frankel, S.L. (1996). Patriarchal ideology and wife assault: A meta-analytic review. Journal of Family Violence, 11(1), 13-40.

United Nations (1989). Violence against Women in the Family. Center for Social Development and Humanitarian Affairs, United Nations Office at Vienna.

Walby, S. (1990). Theorizing patriarchy. Oxford, UK: Basil Blackwell.

 

 



[1] أستاذ مشارك في كلية الخدمة الاجتماعية والرفاه المجتمعي على اسم باول بيرفالد، الجامعة العبرية في القدس، وعضو إدارة في مركز عدالة.

[2] Dobash & Dobash, 1979; Dobash & Dobash, 1992.

[3]   .Straus, 1980

[4] .Gerber, 1995

[5] Dobash & Dobash, 1992; Haj-Yahia, 2003; Haj-Yahia, 2005. .

[6] .Haj-Yahia, 2005, Haj-Yahia, 2003

[7] Haj-Yahia, 2005, Haj-Yahia, 2003, Haj-Yahia, 2002

Dobash & Dobash, 1979; Dobash and Dobash, 1992; Haj-Yahia, 2003; Haj-Yahia, 2005; Smith, [8] 1990; Sugarman & Frankel, 1996.

[9] Gerber, 1995

[10] Walby, 1990

[11] United Nations, 1989

[12] Gerber, 1995

[13] Onyskiw, 2003

[14] Gerber, 1995

[15] Haj-Yahia, 2000

[16] Haj-Yahia, 2000, 2002b; United Nations, 1989

 
 
 
 
 
 
 
إتصل بنا
هاتف : +972(4)6462138
قاكس : +972(4)6553781
[email protected]