مقالات ودراسات

 

أثبت ربيع شعوبنا العربية من جديد، أن المرأة العربية هي قائدة وشريكة في صنع الأحداث وقلب الموازين ونقد الواقع ورفع التطلعات. فكان لها الدور البارز والطلائعي في حركات الاحتجاجات الشعبية، وكانت أول من انتفض لإشعال الثورة، وأول من دفع الثمن من دمها وحريتها. رغم أن هذا النشاط السياسي العام للنساء ضد الأنظمة القمعية ليس بجديد، فالعديد منهن اعتقلنّ وسُجنّ لنضالهنّ ضد الأنظمة الديكتاتورية والاستعمارية على مر السنين، لتكن ثورتهنّ وثورات الشعوب، ثورة كرامة وكبرياء، ثورة ديمقراطية وإصلاحات، ثورة عدالة اجتماعية، ثورة تبحث عن القيمة الانسانية التي افتقدتها الأنظمة الرأسمالية الاستعبادية. ربما تغلّب التحدي السياسيّ في خضم الثورات والاحتجاجات على التقاليد وعلى الأدوار النمطية للنساء فشهدناهن زاهيات في "ساحات التغيير" المختلفة، فما أن سقط النظام حتى عادت مشاهد لهث نساء مصر وتونس للحفاظ على ما حققه كفاحهنّ المتواصل من إنجازات تمت في عصر الأنظمة البائدة، وهرولتهن لضمان تمثيل النساء ورفع مكانتهن في "مكتسبات" ما بعد الثورة! لتتنغص علينا وعليهن فرحة انتصار الثورة مع التجلي المستحدث للرواسب الذكورية، غير الحصرية على مجتمعاتنا العربية، والتي عملت الأنظمة القمعية بكد على ترسيخها ، ليتضح أن ما أحرزته نضالات المرأة من مكاسب على مر السنين، لا تتعدى القرارات السلطوية الرسمية ولا ترتقي لأن تكون نتاجا أو انعكاسا لتغيير اجتماعي أو ثقافي فعلي على أرض الواقع.
 
إفرازات الثورات العربية المنتصرة، لقنتنا درساً، ليس بجديد، ولكن ربما توقعاتنا المتحمسة والانفعالية من الثورات أنكرته، وهو أن تغيير الأنظمة والرموز السياسية، رغم صعوبته وثمنه الباهظ، هو أكثر قابلية للتحقيق مقابل إحداث تغيير مجتمعي على مستوى الوعي الفردي والجماعي، حول مفهوم الحرية الاجتماعية التي لا بد أن تكون شرطاً للازدهار القومي والوطني وتحرره!
 
في مجتمعنا الفلسطيني، لم تهب رياح الثورة المنتظرة بعد، رغم تأثرنا الواضح البروز بها، ودعمنا المتواصل لانتصاراتها، ولا يبدو متوقعاً انفجار ثورة فلسطينية لتغيير نظام سياسي أو اجتماعي على المدى القريب، ولكن دروس الثورات الآنية علمتنا أن الثورة إن هبت فلن تصل حدود "الخاص"، فالمرأة وقضاياها في مجتمعنا هي شأن "خاص"، فالشؤون العامة لدينا تقتصر على غلاء المعيشة، مناهضة العنصرية، قضايا الأرض، قضايا المسكن، قضايا التعليم وغيرها، أما المرأة وقضاياها فتبقى شأنا "خاصا"، يخص العائلة، الزوج، الأخ، الأب وربما الأقرباء أيضاً! ولا يصبو لأن يكون شأنا عاماً تتداوله انتفاضات أو ثورات أو حتى جلسات دوائر رسمية حكومية أو محلية!
 
رغم أن واقع المرأة الفلسطينية تمثل بدالة تصاعدية، إلا أن مجتمعنا لا زال بعيدا كل البعد عن تميزه بالعدالة، أو على أقل تقدير أن تسوده معايير المساواة الجندرية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لا يمكن الحديث عن عدالة اجتماعية وثمانون بالمئة من نسائنا غير ممثلات في سوق العمل! لا يمكن التغني بالمساواة بين الجنسين وأربعون بالمئة من فتياتنا يتزوجن دون التاسعة عشرة! لا يمكن الحديث عن العدل وببلداتنا حالات لزواج متعدد! لا يمكن الانحياز للإنسانية وعشر نساء يقتلن سنوياً! لا يمكن ادعاء التقدمية ونساؤنا مقصيات عن الساحة السياسية! لا يمكن الحديث عن الحرية ونساؤنا رهينات لقوانين أحوال شخصية فيها ما يتطلب الإصلاح الكثير خصوصاً فيما يتعلق بعقود الزواج والطلاق بما يضمن رغبة النساء الحقيقية في هذه الأحكام!
 
نحتاج "لغربلة" المفاهيم الاجتماعية والقوانين، نحتاج لدفع العجلة، نحتاج لضمانات نوعية لمنع العنف ضد النساء. ولن تخرج النساء من دوائر العنف الاجتماعية، القانونية، الاقتصادية، الجسدية، النفسية، الجنسية، الصحية والقومية دون رؤيا شمولية. فكيف لمن تزوجت بسن السابعة عشرة أن تكمل تعليمها؟! وهي لم تحظ بفرصة شهادة الإنهاء المدرسية؟ كيف لها توفير العمل والموارد الاقتصادية؟! كيف لها أن تتماشى مع تربية أجيال تتراكض مسرعة في دنيا العولمة؟
 
العنف هو القسوة، الشدة واستخدام القوة ولا يمكن اقتصاره على الجسد والنفس! إن عدم توفير مرافق صحية قريبة للنساء هو عنف! إن عدم توفير المواصلات العامة لنسائنا في البلدات العربية هو عنف! إن عدم إعطاء الفتاة فرصة إكمال تعليمها هو عنف! إن تزويج الفتاة دون اكتمالها العقلي والجسدي والنفسي ودون الوعي للخيار هو عنف! إن عدم توفير أماكن عمل للنساء هو عنف! إن عدم المساواة بالقوانين عامةً والأحوال الشخصية خاصةً بين النساء والرجال هو عنف! إن إقصاء النساء عن الحيز العام، وإجحاف حقوقهن في الحيز الخاص، هو عنف!
 
من اعتقد أننا بحاجة لثورة تحمل بطياتها التغيير المجتمعي، فمفاد الثورات أنها ليست عنوانه. فلا بد إلا أن تكاتف جهود أبناء مجتمعنا باختلاف انتماءاتهم وتياراتهم للالتفاف الحقيقي حول المرأة وقضاياها وعملهم الواعي والتوعوي لأهمية رفض الترسبات البالية واستنهاض الحس الإنساني نحو مجتمع تسوده المساواة والعدالة، حينها فقط من شأنه ألا يجعلنا نحتاج للانشغال في إحياء اليوم العالمي لمكافحة العنف ضد النساء في الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني في كل عام، الذي اتخذته نساء العالم أجمع كيوم خاص لإطلاق صرخة رافضة للعنف الموجه ضد النساء بأنواعه المختلفة – بحيث تتعرض واحدة من كل ثلاث نساء في العالم للعنف-، وربما عندها ننشغل في استنهاض عقولنا البشرية وتطوير مجتمعنا وموارده والعمل على تقوية حصانته الاجتماعية والقومية، داحضين الظواهر الاجتماعية التي من شأنها إضعاف بنية مجتمعنا الاقتصادية والاجتماعية، كتعدد الزوجات وتزويج الفتيات وكثرة الأولاد الذين يولدون في دوائر الفقر. إذ أن تكاتف الأفراد والمجموعات وأخذ المسؤولية الجماعية لرفع قضايانا الجوهرية وفي مركزها قضايا المرأة، سيقود مجتمعنا حتماً للحصانة الاجتماعية التي يحتاجها، وحينها المجتمع العادل سيستَحدِث نموذجاً ثوراتياً لثورة حرية قومية تمتاز بتفوقها على مظاهر القمع المجتمعي!

 

 
 
 
 
 
 
 
إتصل بنا
هاتف : +972(4)6462138
قاكس : +972(4)6553781
[email protected]