مقالات ودراسات

 

بقلم رهام أبو العسل


من الواضح لدى الكثير من المراقبين أن الأهداف التي وضعها الزعماء الوطنيّون المختلفون حول ما يجب على المجتمع أن يحققه إزاء النساء، قد تداعت بفعل التقاليد التي كرستها الدساتير الوطنية المختلفة. ففي الوقت الذي أكدت فيه على مساواة الجنسين أمام القانون، احتوت جميع الدساتير على فقرة تؤكد على أن الشريعة هي القاعدة النافذة، وهي إشارة يفهمها جميع المعنيين بتقبل المبدأ الإسلامي بكون الرجال قوّامين على النساء (حداد، 2003).

 

رغم الاختلافات القائمة بين الدول العربية ما بعد الاستعمار في مساراتها التحديثية، تشير حجاب (2003) إلى أن هذه الدول بقيت تجتمع في قانون الأسرة والأحوال الشخصية، حيث بقي في معظم هذه الدول كما هو، من دون أن سُمي، ثم أدخلت عليه بعض الإصلاحات بدلاً من استبداله. بقي الاختلاف بين الدول العربية في التفسيرات التي تمنح للآيات القرآنية وللسنة النبوية وللقوانين الإسلامية، التي تسمح للرجل بالادعاء القانوني بتفوقه على المرأة في القِوامة، في الشهادة والإرث وفي الطلاق (أبو بكر،2001)  أدّت هذه الفجوة إلى وجود تناقض بين دساتير هذه الدول التي تبنّت مسارات تحديثية في جميع مستويات أجهزتها السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والتربوية، والتي تنصّ عدم التمييز على أساس العرق والجنس، وما بين قوانين الأسرة والأحوال الشخصية، والتي تضع النساء في مكان لا يُحسدن عليه (حجاب،2003).

 

تنص دساتير الشعوب العربية في الدول التي توجد فيها الدساتير على عدم التمييز على أساس العرق، أو الجنس أو المعتقد، تبعًا لما يتطلبه القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة. وهكذا فهي تضمن الحقوق السياسية المتساوية للنساء العربيات اللاتي يستطعن الترشّح والانتخاب في جميع الدول العربية ذات البرلمانات (باستثناء الكويت). تتماشى تشريعات العمل العربية التي شرعت خلال القرن العشرين هي الأخرى مع المعايير الدولية. إلاّ أن قوانين الأسرة التي تنظم الحقوق والمسؤوليات في الزواج والطلاق وحضانة الأبناء والميراث، لا توفر المساواة بين الجنسين لأنها طُوّرت ضمن الإطار الإسلامي في جميع الدول العربية. ولأن التشريعات طُوّرت بشكل مستقل، فإنها تحمل مجالاً واسعًا في التفسير. ففي حين حققت تونس مساواة تكاد تكون تامة بين الرجال والنساء ضمن الإطار الإسلامي، يؤمّن القانون المصري "التعادل"  بدلاً من المساواة، وفي البحرين لم تضع الدولة قانونًا ينظم العلاقات الأسرية، وقد أنيط إصدار الرأي القانوني بالقضاة الذين ترك لهم تفسير الشريعة على نحو مباشر وحسَب ما يرونه مناسبًا. وهكذا تخلص حجاب (2003) إلى أن معظم قوانين الأسرة بشكلها الراهن تتعارض في واقع الأمر مع أحكام الدساتير وقوانين العمل المشرعة. فعلى سبيل المثال، كُمين للدستور في بعض الدول العربية أن يضمن حق العمل، و كُمين أن يكون قانون العمل فيها منصفًا، ولكن قانون الأسرة قد يسمح للزوج بأن يشترط على زوجته الحصول على موافقته من أجل العمل خارج المنزل. 

وبالاعتماد على التعديلات القانونية في المنطقة لقانون العائلة الذي تمّ في مصر، سوريا، الأردن، المغرب، الهند وباكستان، يصف جون اسبوزيتو الأسلوب الذي تمّت فيه صياغة الدول الحذرة في توظيف القيم الشرعية من أجل تأسيس الهُوية الإسلامية لهذه التعديلات، وهي بذلك تصوغ خيطًا- علاقة بين المعاصرة القانونية والسوابق القضائية التقليدية .(Esposito, 1994) من خلال التشديد على إعلام الزوجة الأولى أو الزوجات السابقات بخصوص الزواج، ومن خلال إعطاء القوة للمحكمة لأن تقرّر قدرة الرجل المادية على إعالة عائلة أخرى، فهناك إمكانية لرفض المحكمة لتعدّد الزوجات إذا تب أن إمكانية الإساءة قائمة، وكذلك ضمان الطلاق لزوجة تتذمر من معاملة غير متساوية. أعطت بعض القوانين العربية الحديثة الزوجة حق طلب التطليق بسبب زواج زوجها بأخرى، شرط أن تشترط ذلك في عقد الزواج. واعتمدت هذه القوانين هنا على المذهب الحنبلي الذي يرى صحة هذا الشرط في الزواج. وبذلك، فقد اختارت هذه الدول التسوية. ترى يمني Yamani,2008)) أنه رغم أن هذه التعديلات ركزت أساسًا على العامل المادي لتعدّد الزوجات، ولم تقضِ بالآثار الأخرى لتعدّد الزوجات، استطاعت أن تقلل من عدم العدل المادي.

إنّ مصر هي واحدة من الدول العربية المصدّقة على ميثاق الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ النساء، وهو الأداة الدوليّة الأبعد مدًى لضمان المساواة ما بين الرجال والنساء. ويُعتبر التصديق على أية مواثيق للأمم المتحدة التزامًا من جانب الحكومات، بجعل قوانينها الوطنية متماشية مع الميثاق، إلاّ في حالة تحفّظ الحكومات على فقرات محدّدة. كان لمصر تحفظاتها كما كان للعديد غيرها من دول العالم. شملت تحفظات مصر التحفظ التالي على المادة 16 : الخاصة بمساواة الرجال والنساء في جميع الشؤون المتعلقة بعلاقات الزواج والأسرة في أثناء الزواج وعند انحلاله. وينبغي أن لا يتعارض ذلك مع أحكام الشريعة الإسلامية، حيث تحصل النساء على حقوق تعادل حقوق أزواجهنّ من أجل تأمين توازن عادل بينهما. ويأتي هذا احترامًا لقدسية المعتقدات الدينية الراسخة التي تحكم العلاقات الزوجية في مصر والتي ينبغي أن لا توضع موضع تساؤل (حجاب، 2003).

 

يعني هذا أن النساء، من جانب، يجب أن يحصلن على المساواة التامة مع الرجال ما دامت مصر قد صدّقت على الميثاق. ومن جانب آخر، عندما يصل الأمر إلى تفاصيل تنفيذ الميثاق، فإن حقوق النساء تُقيّد بالاستناد إلى أرضيّات لا يحق لأحد أن "يضعها موضع تساؤل". إن حقيقة كون قانون الأسرة قد نشأ ضمن الإطار الإسلامي، تعني في واقع الأمر أن في وسع النساء أن يحصلن على المساواة خارج البيت، ولكن ليس داخله. وترى حاتم(189:2003) أن هذا التناقض بأشدّ تجليّاته تمثّل في رفض عبد الناصر الاستجابة بفاعليّة للالتماسات التي تقدّمت بها بعض نساء الطبقتين الوسطى والعليا، لإدخال الإصلاحات على قانون الأسرة على النحو الذي يقيّد الطلاق وتعدّد الزوجات. وقد قامت دول أخرى بوضع بعض التعديلات مُتجنّبة فرض منع مباشر ضدّ تعدّد الزوجات، وذلك تخوّفًا من التيارات الدينية، فوضعت تقييدات تقنية وفرضت عقوبات جنائية على من يخالف هذه التقييدات. وتعتبر حاتم أن ترك قوانين الأحوال الشخصية على حاله هو علامة فارقة من علامات الاختلاف الثقافي وانعدام المساواة الجنوسية، تُنكر فيها الدولة على النساء حق المساواة في الحصول على الطلاق وتتساهل إزاء تعدّد الزوجات. وفي حين لم يكن تعدّد الزوجات يشكل في مصر في أفضل حالاته سوى مؤسسة وممارسة هامشية، فإن إبقاءه قانونيًّا قد أبرز علامة ثقافية مهمة على حضور الامتياز الذكوري. فحرمان النساء من المساواة في حق الحصول على الطلاق قد أكد الوضع النسائي القانوني التبعي في الأسرة، وبذلك فإن الأدوار التي أعطيت للرجال والنساء في الميدان الأسري كانت تهدف إلى أن تكون ممثلة لعلامات الاختلاف الثقافي، وحين ناشدت ممثلات نساء الطبقة الوسطى عبد الناصر عام 1967 في خصوص تغيير هذه القوانين التي بدت شاذة في مجتمع الحداثة الجديد، فقد ردّ عليهنّ بأنه ينبغي لهنّ التوجّه إلى المؤسسة الدينية التي تملك القول الفصل. ويُعتبر هذا الموقف المتراخي من قوانين الأحوال المدنية تناقضًا كبيرًا مع الطريقة التي طوّرت بها الدولة العَلمانية تفسيراتها الاقتصادية للإسلام.

مضى خمسون عامًا حتى ظهرت تغيّرات ذات أهمية لصالح النساء في قانون الأحوال الشخصية، وجاء التغيير في مرسوم قانون أصدره أنور السادات، بضغط من زوجته جيهان السادات. اعتبر القانون المصري رقم 44 لعام 1979 ، أن تقييد التعدّد يكون عن طريق شرطي الإنفاق والعدل، ويتمّ منح المرأة الحق في طلب الطلاق في حال تزوّج زوجها بأخرى، وإن لم تشترط ذلك في عقد النصّ. وكان من بين الموقّعين على هذا القانون، شيخ الأزهر ومفتي الجمهوريّة ووزيرا الأوقاف والعدل. ولكن رجال الدين المحافظين هاجموا هذا القانون الذي سُمّي “قانون السادات” وسُمّي، أحيانًا، “قانون جيهان” نسبة إلى زوجة الرئيس المصري أنور السادات. ووجّه المعارضون نقدهم بشكل خاصّ إلى صياغة المادة السابقة، لأنها تعتبر مجرّد الزواج بزوجة ثانية ضررًا على الزوجة الأولى، ورأوا فيه حكمًا صريحًا على ما أباحه الله، بأنّه ضرر وظلم (العشا، 2000). ولم يُكتب لهذه الصياغة في الحقيقة عمر طويل، فصدر بعد اغتيال الرئيس السادات، عام 1981 ، أمر من المحكمة الدستورية العليا بإلغاء قانون السادات، وصدر في العام نفسه أمر من المحكمة الدستورية العليا بإلغاء قانون الأحوال الشخصية لعام 1979 ، وأعقب الإلغاء عام 1985 صدور قانون جديد تمّ إجراء بعض التعديلات عليه، ولكن بقي أهم ما ظهر فيه أنه لا يعتبر مجرّد زواج الرجل بزوجة إلغاء لحقّ الزوجة في طلب الطلاق أوتوماتيكيًّا إذا تزوّج زوجها بأخرى، وأصبح عليها التوجّه إلى المحكمة وإثبات الضرر اللاحق بها من قبل زوجها كشرط للموافقة على الطلاق. من خلال القانون الذي سُنّ بهذا الخصوص، فإن باقي التعديلات ضمنت للمرأة حقّ الطلاق في حال معارضتها لزواج زوجها، غير أنّ الكثير من الأمهات، عمليًّا، لا يطلبن الطلاق ويستمرِرْن في تحمّل كلّ التبِعات المادية بشكل منفرد، حيث إن الطلاق من المُمكن أن يجعلهنّ، في الكثير من الحالات، في حالة من العوز، وأن يؤدّي، بالتالي، إلى فقدانهنّ حضانة أطفالهنّ ممّن هم فوق سنّ السابعة (Mashhour, 2005). تشير بدران (2000) إلى أنه في ليلة سفر الوفد النسائي المصري إلى نيروبي، لحضور مؤتمر المرأة الذي نظّمته الأمم المتحدة عام 1995 ، تمّ إصدار قانون آخر أقلّ حدّة من القانون الأول، حيث أدركتِ الدولة أنّه ليس من المناسب أن تحمل النساء شكواهنّ إلى هذا الاجتماع الدوليّ.

وفي الأخير، فإن مساعي التحديث من جانب الدولة قد عملت بثبات على إضعاف الدعم التقليدي وأنظمة التوسط، ويزداد الآن اعتماد النساء على مؤسسات الدولة وتشريعاتها من أجل حماية حقوقهنّ. ولكن في المساحة الحرجة التي تخصّ العلاقات داخل الأسرة، لا يوفر القانون في العالم العربي الحقوق المتساوية للرجال والنساء. ويعود ذلك إلى أن النقاش حول أدوار النساء قد أدير ضمن الإطار الإسلامي )حجاب، 118:2003) ويتعرض هذا الأمر لمساءلة متزايدة من قبل النسْويين/ات العرب، الذين يطرحون تونس كمثال، مشيرين/ات إلى كونها قد طوّرت قانون الأسرة لديها ضمن الإطار الإسلامي، لكنها فسرت قوانين الشريعة على نحو يتيح المساواة بين الرجال والنساء.

 

هذا المقال مقتطف من البحث  تعدد الزوجات: الخطاب والممارسة في المجتمع الفلسطيني 

إصدار: لجنة العمل للمساواة في قضايا ألاحوال الشخصية 2010

 
 
 
 
 
 
 
إتصل بنا
هاتف : +972(4)6462138
قاكس : +972(4)6553781
[email protected]