مقالات ودراسات

 

ألاحوال الشخصيّة ما بين المحاكم الدينيّة والمدنيّة*

عرين هوّاري**

 

تُعتبر قضايا الأحوال الشخصيّة ضمن أكثر المواضيع خصوصيّة وحسّاسيّة في المجتمعات كافّة،

لكونها القضايا المتعلّقة بحياتنا الخاصّة والأسريّة، والتي لا نرغب بشكل عامّ أن نعالجها خارج نطاق بيتنا وأسرتنا، ونراها جزءًا من حرماتنا الشخصيّة. ولكن في الوقت نفسه، يفرض علينا الواقع في كثير من الأحيان حلّ خلافات أسريّة كتعذر الحياة المشتركة، أو عدم قيام أحد الزوجين بمهامّه الأسريّة، أو ضرورة القرار بشأن رعاية الأبناء والوصاية عليهم. لذا يكون التقاضي أمرًا لا بدّ منه، بل مفضّلاً -في حالات كثيرة- عن العيش في ظلّ علاقات غير سليمة، يرافقها أحيانًا العنف وعدم

الأمان النفسيّ والجسديّ والاقتصاديّ. وفي معظم هذه الحالات، ودونما تعميم، تعاني المرأة أكثر، وذلك أنّها الطرف الأضعف في المبنى الاجتماعيّ والاقتصاديّ والثقافيّ والسياسيّ القائم. وحيث لا بدّ من اللجوء إلى الطرف الثالث، فإنّنا نولي جودةَ المؤسّسة التي تقضي ما بين طرفَيِ النزاع أهمّـيّةً كبرى، لا لأنّ القضايا المتنازَع عليها خاصّة وحسّاسة فحسب، وإنّما لأنّها –في الأساس- تنظّم حياة الإنسان داخل الحيّز الخاصّ، وتحدّد موقعه وسلوكه بالحيّز العامّ أيضًا. حيث لا يمكن مثلاً لإنسانة

معنّفة داخل بيتها أن تمارس حياتها في الحيّز العامّ بثقة وحرّيّة ورفاهية، كما لا يمكن لأب محروم من رؤية أبنائه ظلمًا أن يكون إنسانًا منتجًا في عمله أو في نشاطه الاجتماعيّ.

تعكس القوانين التي يجري التقاضي بموجبها المنظومةَ القيميّة التي يتبنّاها المشرّع، وكذلك القيم التي تكرَس بالتالي داخل المجتمع، وفي الأحوال الشخصيّة تحدّد هذه القيم -كما أشرنا- حال الإنسان، أي هي مركزيّة جدًا في حياته، وهذا ما يفسّر أسباب الخلاف الكبير عليها وعلى محاولات تعديلها، سواء أكان هذا في سياقنا في الداخل أو في العالمين العربيّ والإساميّ، بل كذلك في سائر أنحاء العالم. احتدم الجدل كثيرًا في العالم العربيّ عند تعديل قوانين الأحوال الشخصيّة بلغ حدّ التكفير، وكان

للناشطات النسويّات وناشطي حقوق الإنسان دور كبير في إجراء هذه التعديات، كما نالهم/نّ الحظّ الأوفر من الهجوم. ومن بين أنجح الإنجازات كانت مدوّنة الأحوال الشخصيّة المغربيّة التي أُقِرّت عام 2006، والتي بناء عليها جرى –على سبيل المثال- رفع سِنّ الزواج إلى ثمانية عشر عامًا، وأُقِرّت ولاية المرأة على نفسها في الزواج، ووُضع الطلاق تحت رقابة القضاء، وكذلك اعترف بحقّ المرأة بعد الطلاق في الأموال المكتسبة للزوجين.  كذلك نجحت الناشطات المصريّات في إجراء

بعض التعديلات، كسَنِ قانون الخُلع، وإلغاء موافقة الزوج على سفر الزوجة، على سبيل المثال. ولكن ليس من قَبيل المصادفة أن يُطرح فتح ملفّ الأحوال الشخصيّة مجدَدًا في العالم العربيّ مباشرة بعد الثورات، ولا سيّما في تونس ومصر(1). وفي سياقنا في الداخل، أثار تعديل القانون، أو مسار تعديل قانون محاكم شؤون العائلة الذي استمرّ عدّة سنوات، جدلاً كبيرًا داخل فئات مجتمعيّة مختلفة، أولّاً حول مشروعيّة هذا التعديل، وثانيًا حول ماهيته. أحاول في ما تبقّى من هذا المقال التطرّق إلى التعديل: أسبابه، مضمونه وكذلك إلى النقاشات التي دارت في صالحه أو رفضًا واستنكارًا له، دون اختزال النقاش بالموافقين والمعترضين، وفي النهاية

سأتطرّق قليلاً إلى القضايا المطروحة اليوم للنقاش والتغيير. أدّى التعديل ذو الرقم "5" لقانون محاكم شؤون العائلة، الذي سُنّ في الكنيست بمبادرة وجهود "لجنة

العمل للمساواة في قضايا الأحوال الشخصيّة"، إلى إعطاء أبناء وبنات الطوائف الإساميّة والمسيحيّة الحقّ في الاختيار، حين التقاضي في معظم قضايا الأحوال الشخصيّة، بين محاكم العائلة والمحاكم الدينيّة، ولكنّه أبقى التقاضيَ في مسائل الزواج والطلاق حصريًا ضمن صلاحيّات المحاكم الدينيّة الإساميّة والمسيحيّة، أسوة بتلك اليهوديّة، حيث جاء هذا التعديل ليعطيَ النساء والرجال المسلمين والمسيحيّين حقًا بالاختيار كان يتمتّع به اليهود منذ سُنَ قانون محاكم العائلة عام 1995، بينما كان

 أبناء الطوائف الإساميّة لا يتوجّهون إلاّ إلى المحاكم الدينيّة في معظم قضايا الأحوال الشخصيّة (2) ، وكان أبناء الطوائف المسيحيّة لا يتوجّهون إلاّ إلى المحاكم الكنسيّة في قضايا الزواج والطلاق ونفقة المرأة المتزوّجة (3).  وبناء على هذا التعديل، يمكن لأبناء وبنات الطوائف الإساميّة والمسيحيّة الاختيار بين المحكمة الدينيّة ومحكمة شؤون العائلة في قضايا مثل نفقة الزوجة والأطفال، والحضانة، والوصاية. ضمن النقاشات حول القانون، سُمِعت ادّعاءات مبدئيّة وأخرى إجرائيّة. من بين تلك المبدئيّة طرح الجانب الرافض اقتراح القانون مسألة الحفاظ على مؤسّساتنا الدينيّة وعلى صاحيّاتها وعدم نقل هذه الصلاحيّات إلى محاكم مدنيّة، كوننا نعيش في دولة يهوديّة، وذلك كجزء من حقّنا كأقلّـيّة في الاستقاليّة بممارسة شؤوننا الثقافيّة والدينيّة، مع العلم أن الحق في الاستقالية الثقافية كحق جماعي،  يجب ألا يمس بحقوق الإنسان الأساسية للأفراد. بينما ادّعى الجانب المؤيّد للقانون أنّ حقّ الإنسان في اختيار المنظومة القانونيّة التي يتقاضى بموجبها، دينيّة كانت أم مدنيّة، هو جزء من حقّ الإنسان

بالمعتقد، وهو جزء من احترام مبدأ الديمقراطيّة. كذلك ادّعت لجنة الأحوال الشخصيّة أنّ الأحكام الصادرة عن المحاكم المذهبيّة مجحفة تجاه النساء.  ضمن هذه النقاشات، سُمِعت ادّعاءات أخرى كذلك، أشارت -مثلاً- إلى أهمّـيّة أن يكون التغيير في الأمور المتعلّقة بنا كمجتمع فلسطينيّ وفي قيمنا وفي سلوكنا الاجتماعيّ داخل مجتمعنا وليس ضمن القانون الإسرائيليّ، متجاهلين بذلك أنّ المحاكم الدينيّة كانت جزءًا من وزارة الأديان الإسرائيليّة ولاحقًا حُوّلت إلى وزارة القضاء، وأنّ تعيين القضاة في المحاكم المذهبيّة الإساميّة تقوم به لجنة تعيين القضاة، وهي لجنة غير معيّنة من قبل المجتمع الفلسطينيّ، بل هي لجنة رسميّة فيها ممثّلون عن البرلمان والحكومة الإسرائيليّين. إلى هذا يضاف أنّ القانون الدينيّ نفسه ( المعتمد على قانون قرار حقوق العائلة العثمانيّ) هو قانون مذهبيّ وضعيّ أقرّته الدولة العثمانيّة، وليس إلهيًا مقدّسًا، بل ناتج عن اجتهادات فقهيّة تعتمد –في الأساس- على المذهب الحنفيّ وتستعين كذلك بمذاهب أخرى، وبالتالي فهو قابل للتعديل والاجتهاد في مضمونه، وقد جَرَتْ في معظم الدول العربيّة تعديلات على هذه القوانين من منظور فقهيّ أيضًا. ضمْن ادّعاءات لجنة العمل للمساواة في قضايا الأحوال الشخصيّة، وردَ أنّ من حقّ العَلمانيّين اختيار التقاضي في محاكم مدنيّة في أحوالهم الشخصيّة، وذلك على الرغم من أنّه وَفق قانون محاكم العائلة يجب على محكمة شؤون العائلة عندما تنظر في الأحوال الشخصيّة تطبيقُ الأحكام الدينيّة المذهبيّة لأطراف، أي إنّه على القاضي المدنيّ الحكم وَفق المذهب الدينيّ على ألاّ يتناقض ذلك مع القوانين الإسرائيليّة، وهذا يسري أيضًا على المحاكم الدينيّة.  معنى هذا أنّ القوانين الإسرائيليّة تُعتبَر في المحكمتين فوق القوانين الدينيّة. بَيْدَ أنّ اللجنة رأت آنذاك، وما زالت ترى، أنّ محاكم العائلة أكثر التزامًا في تطبيق القوانين المدنيّة، ولا سيّما قانون مساواة المرأة في الحقوق لعام 1951، وقانون الأهليّة القانونيّة والوصاية لعام 1962 الذي بموجبه يتساوى الوالدان في الولاية على أولادهما القاصرين.  بعض الانتقادات على القانون أشارت إلى كون القانون ينسخ القانون الذي يسري على المرأة اليهوديّة، وبالتالي ينسخ إشكالاته، إحداها كانت سباق الصلاحيّات؛ حيث يجري التقاضي في المحكمة التي يتوجّه إليها المدّعي الأوّل، فإن سبق الرجل فادّعى في المحكمة الدينيّة عولِج الطلب في المحكمة الدينيّة، وكذلك ينسخ أيضًا مبدأ "ربط التقاضي" الذي بناء عليه إن سبق الرجل فقدّم دعوى حضانة في محكمة دينيّة يمكنه ربط سائر القضايا معها، أي نفقة الزوجة والأولاد(4) . كانت اللجنة مضطرّة إلى التعامل مع هذه المعضلات، ولكن معرفتها أنّ النموذج القائم في التقاضي عند اليهود هو سقف يصعب تخطّيه حَمَلَها على أن تتبنّى ذلك النموذج، غير أنّه خلال العمل على سَنّ القانون استطاعت إلغاء إمكانيّة ربط كلّ القضايا معًا في نفس المحكمة. بعض الاعتراضات على القانون كانت إجرائيّة كذلك؛ إذ أشار البعض أنّه في المحاكم الدينيّة يجري الحديث باللغة العربيّة، فتشعر المرأة بمقدار أقلّ من الاغتراب والارتباك، كما أنّ إجراءات هذه المحاكم أسرع ورسومها أقلّ تكلفة. إنّ توضيح هذه النقاط جاء ليشير إلى أنّه لا يمكن اختزال النقاش السابق بخيار "عَلمانيّ" مقابل خيار "دينيّ" أو بخيار يُراعي حقوق الإنسان مقابل خيار محافظ. ولكن هذا لا يعني أنّ هذا النوع من الجدل لم يكن، بل هو ما زال قائمًا، فهنالك أصوات تصرّ على ضرورة حصر التقاضي في المحكمة المذهبيّة الإساميّة والمسيحيّة، لكونهما صرحًا لـِ "القداسة" ومعقلاً "قوميًا". والبعض يرفض ذلك مطلقًا، وذلك أنّه يرى بمحكمة شؤون العائلة تعبيرًا مطلقًا عن ممارسة "العَلمانيّة". بعد مرور أحد عشر عامًا على تعديل القانون وعلى فتح الإمكانيّات أمام النساء والرجال في التقاضي أمام المحكمة التي يختارونها في قضايا الأحوال الشخصيّة، عدا الزواج والطلاق، لا يمكننا الجزم أنّ إحدى هذه المحاكم أكثر إنصافًا من الأخرى من حيث قراراتها أو إجراءاتها أو شعور النساء داخلها، حيث لم يجْرِ أيّ بحث يمكن الاعتماد عليه، ولكن من خلال الاستماع إلى انطباعات العديد من المحامين والمحاميات، سمعنا ادّعاءات تفيد أنّ التعديل وفتح الخيار أدّيا إلى وضع تحدٍ أمام المحاكم الدينيّة لتحسين أدائها وإصدار قرارات أكثر إنصافًا. وتشير محاميات لجنة العمل للمساواة بقضايا الأحوال الشخصيّة أنّه بناء على قضايا عالجتها اللجنة ومحاميات ناشطات بداخلها، فإنّ محاكم شؤون العائلة تعتمد أكثر على مبدأ المساواة، وكذلك على مبدأ مصلحة الطفل والحقّ المتساوي للوالدين في ما يتعلّق بالحضانة والولاية على الأطفال القاصرين.

في رأيي، ما زال هنالك الكثير من القضايا التي من المهمّ معالجتها، وقد آلَت الأطر النسويّة على نفسها معالجة الكثير منها فلجنة العمل للمساواة في قضايا الأحوال الشخصيّة نجحت مؤخّرًا في تعديل سنّ الزواج ورفعه إلى ثمانية عشر عامًا وقامت بحملة هامّة لمناهضة تعدّد الزوجات، ويقوم تنظيم "كيان" بالعمل على دعم النساء المتقاضيات في قضايا الأحوال الشخصيّة، ويقدّم أوراقًا في قضايا أحوال شخصيّة كتقديم قراءة جندريّة لوضع المحاكم الكنسيّة، ومؤخّرا تقوم جمعيّة نساء وآفاق ببحث من أجل تعديل بعض بنود قانون الأحوال الشخصيّة الساري في المحاكم الدينيّة الإساميّة وقبل عدّة سنوات قامت بحملة من أجل الدفاع عن حقّ النساء بالميراث. من ناحية، يظهر أنّ جميع المحاولات تقوم بها أُطُر نسويّة فقط. أرى أنّه على الأطر الحقوقيّة وأطر المجتمع المدنيّ عامّة والأحزاب أن تكون جزءًا من عمليّة التغيير في قضايا الأحوال الشخصيّة، ولا أقصد التغيير القانونيّ فقط، وإنّما التغيير الاجتماعيّ والثقافيّ.  فرفْع سنّ الزواج لن يحميه أيّ قانون ما دام المجتمع غير جاهز،

ومناهضة تعدّد الزوجات لن تنجح إلاّ من خلال الموقف الاجتماعيّ الحازم ومواقف القيادات من هذه الظاهرة، ولن تساهم القوانين الدينيّة ولا المدنيّة في الدفاع عن حقّ النساء بالميراث ما دامت القيم المجتمعيّة والقيادات السياسيّة والدينيّة لا تدافع عن هذا الحقّ، وما دامت القيادات التربويّة لا تربّي أجيالاً تحمل مبادئ المساواة والكرامة الإنسانيّة.

(1) انظر\ي مثلاً بيان المنظّمات غير الحكوميّة ضدّ تقدّم المستشار الباجا، رئيس محكمة استئناف الأسرة، بمشروع قانون الأحوال الشخصيّة ضمْن بنوده إلغاء قانون الخلع وانتهاء حضانة الأمّ لطفلها الذكر ببلوغه سنّ السابعة وللبنت ببلوغها العاشرة. موقع مؤسّسة المرأة الجديدة، تموز، 2011.

http://nwrcegypt.org/?p=5210

(2) ما عدا الارث، حيث  الصلاحيّة مطلقة للمحكمة المدنيّة إلاّ إذا توجّه جميع الأطراف خطّيًا إلى المحكمة الدينيّة.

(3) وفي سائر القضايا، كان يتطلّب موافقة جميع الأطراف في سبيل التوجّه إلى المحكمة الدينيّة.

(4) وهذا قد يسيء للمرأة المسيحيّة، إذا افترضنا أنّها كانت تفضّل محكمة العائلة، لأنه قبل هذا الاقتراح لم تكن تتوجّه إلا إلى المحكمة المدنيّة في قضيّة نفقة الولد وحضانته. ووَفق مبدأ الربط، إنْ سبقها زوجها إلى المحكمة الكنسيّة فإنّ الملفّ كلّه يحوَل إلى المحكمة الكنسيّة.

 

* نشر هذا المقال في العدد السادس عشر من مجلة "جدل"  الصادرة عن مدى الكرمل.

**عرين هوّراي: ناشطة نسويّة وطالبة دراسات عليا في دراسات الجنوسة في جامعة بن غوريون وعضو لجنة العمل للمساواة في قضايا الاحوال الشخصية.

 
 
 
 
 
 
 
إتصل بنا
هاتف : +972(4)6462138
قاكس : +972(4)6553781
[email protected]