مقالات ودراسات

 

 

هبة يزبك**

 

أقرّ الكنيست عام 2001 التعديل ذا الرقم 5 لقانون محاكم شؤون العائلة (1995)  والذي بموجبه أعطيت للمتقاضين/ات العرب من المسلمين/ات والمسيحيّين/ات إمكانيّة التوجّه إلى محاكم شؤون العائلة المدنيّة في كلّ ما يخصّ قضايا الأحوال الشخصيّة، ما عدا الزواج والطلاق اللذين بقي التقاضي فيهما محصورًا على نحوٍ قسريّ داخل المحاكم الدينيّة. قبل هذا التعديل، كان على المتقاضين التوجّه إلى المحاكم الدينيّة إلاّ في بعض قضايا الأحوال الشخصيّة.

ويُعتبر تعديل القانون نتاجًا لنضالٍ قادتْهُ أُطُر نسويّة وحقوقيّة من خلال ائتلاف "لجنة العمل للمساواة في قضايا الأحوال الشخصيّة" على مدار ستّ سنوات متواصلة بغية تحسين وضعيّة النساء العربيّات في كلّ ما يتعلّق بقضايا الأحوال الشخصيّة، معتمدين على تجربة الكثير من المحاميات اللواتي لمسن خلال عملهنّ أنّ المحاكم الدينيّة تمسّ بحقوق النساء وتعمل على تكريس الأدوار النمطيّة للنساء والرجال وتكرِس المبنى الذكوريَ للمجتمع. أثّرت النكبة على وضعيّة ومكانة الفلسطينيّين في البلاد وعلى مكانة المرأة تحديدًا، بحيث تحوّلت الثقافة، في ظلّ العجز الاقتصاديّ الذي يعيشه الفلسطينيّون في إسرائيل والتهميش السياسيّ والقوميّ والثقافيّ والعجز عن تحقيق النجاحات، تحوّلت الثقافة بقيمها إلى هدف بحدّ ذاته، بحيث أصبح الحفاظ عليها يعني الحفاظ على الوطن نفسه. لتصبح المرأة رمزًا لأمّة واأرض والثقافة، ولتشكّل الثقافة، ما تحويه من قيم دينيّة ومعتقدات وأعراف وتقاليد عائليّة، أدوات هيمنة لتسويغ وشَرْعَنة السلوك الاجتماعيّ، بما في ذلك كلّ ما يتعلّق بالنظر إلى دَوْر المرأة ومكانتها (1) .

ساهم هذا الوضع في جعل أيّ محاولة للتغيير في قوانين الأحوال الشخصيّة موضوع جدلٍ واسع ومرّكب لِما تحويه من تداخل بين الأبعاد القوميّ والثقافيّ والدينيّ والمدنيّ، ولا سيّما لكونها القوانين التي تنظّم العلاقات بين الزوجين وداخل العائلة، كقضايا الزواج، والطلاق، وحضانة الأطفال، والنفقة، وتقسيم الأملاك وغيرها، ممّا يساهم في تعزيز التعامل مع هذه القضايا كترميز للهويّة القوميّة والدينيّة والثقافيّة وكأداة للحفاظ على الخصوصيّة الثقافيّة والحكم الذاتيّ الثقافيّ. (2) ومن هنا أثارت مبادرة التعديل  المذكورة نقاشًا واسعًا بين أوساط دينيّة وحقوقيّة وسياسيّة ونسويّة في البلاد استمرّ طَوال فترة العمل على تعديل القانون أي في الفترة الممتدّة بين عام 1995 وعام 2001.

في رأيي، لم يكن غريبًا هذا  النقاش، بل كان طبيعيًا في سياق مجتمع عانى من احتلال الوطن وتغييب ملامحه وثقافته ولغته وتجلّيات هُويّته عمومًا، ممّا يجعل كلَ تغيير في مبناه الاجتماعيّ الذكوريّ يبدو مُهدّدًا له ومهدّدًا لحصانته، ولاسيّما حين يتعلّق الأمر بمكانة النساء الاتي يرى بهنّ المجتمع حاملات للهُويّة والموروث الثقافيّ واستمراريّته. ومن هنا، يمكن اعتبار طرح مبادرة لفسح المجال للمواطنين العرب للتوجّه إلى المحاكم المدنيّة في قضايا الأحوال الشخصيّة تحدّيًا ونقلةً في الخطاب المجتمعيّ والقانونيّ السائد حول الفلسطينيّين في البلاد ومكانتهم بعامّة، وحول النساء الفلسطينيّات ومكانتهنّ وحقوقهنّ بخاصّة. ومن هنا، إنّ تعديل القانون ساهم مساهمة جِدّيّة في تشكيل خطاب جندريّ قانونيّ يؤثّر على الممارسات الاجتماعيّة، وفي تطوير خطاب اجتماعيّ بديل يعتمد في جوهره على مواثيق حقوق الإنسان وحقوق المرأة، مشدِدًا على ضمان المساواة وحرّيّة الاختيار وحرّيّة العقيدة للفرد. وهو ما شدّدت عليه لجنة العمل للمساواة في قضايا الأحوال الشخصيّة من خلال استمرار نشاطها منذ طرح تعديل القانون حتّى اليوم.

إنّ هذا التعديل للقانون جاء ليعطي خيارًا ديمقراطيًا للعرب في البلاد، وللنساء على وجه الخصوص، ما بين التوجّه إلى المحاكم المدنية والدينية، سلّط الضوء على معاناة النساء في ظلّ قوانين الأحوال الشخصيّة القائمة، وساهم في خلق تحدٍ أمام المحاكم الدينيّة لتحسين أدائها، وكذلك ساهم في وضع قضايا مفصليّة هامّة وحسّاسة لم تُناقَش مجتمعيًا أو قانونيًا سابقًا، وجرى طرحها بمفهومها النسويّ والحقوقيّ والإنسانيّ خالقًا بدائلَ لِما هو قائم، منها -على سبيل المثال- العمل المثابر على مدار سنوات لرفع سنّ الزواج من 17 سنة الى 18 (والذي تحقّق مؤخَرًا)، (3) وكذلك مناهضة ممارسة تعدُد الزوجات والقيام بحملات جماهيريّة على هذه القضايا التي اعتُبرت "طابو" لسنوات طويلة دونما جرأة على نقضها، لكونها مشتقّة ومرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالشرائع الدينيّة ومترسّخة اجتماعيًا. يضاف إلى هذا طرح إصلاحات على الأحكام الشرعيّة القائمة، كطرح مسألة تعيين النساء كقاضيات ومحكّمات في المحاكم الشرعيّة، وإجراء إصلاحات في شأن المهر المؤجَل وإلغاء الطاعة الزوجيّة والميراث، وإصلاحات أخرى مقترحة. من ناحية أخرى، تجدر الإشارة أنّه رغم مساهمة تعديل القانون في خلق نقاشات، وفي طرح بدائل لقضايا اجتماعية حسّاسة، لا يمكننا الادّعاء حتّى الآن (بسبب مرور وقت قصير نسبيًا لقياس نجاعة تعديل القانون على جمهور النساء المحتكمات في محاكم شؤون العائلة مقابل المحاكم الدينية)، لا يمكن الادّعاء أنّ المحاكم المدنيّة تنصف النساء العربيّات أكثر وتحقّقُ المساواة المنشودة؛ إذ لم يَجْرِ حتّى اليوم أيُ بحث مقارن في هذا المضمار، ومواقف المحامين المهنيّين في هذا الشأن متباينة.

ولكن تشير معطيات أحد تقارير جمعيّة "كيان" (4) إلى وجود فروق في الأحكام الصادرة في دعاوى الحضانة بين المحاكم الشرعيّة ومحاكم شؤون العائلة، لصالح محاكم شؤون العائلة التي منحت الوصاية للنساء، كما أنّ مدّة التداول بالإجراء كانت أقصر. من ناحية أخرى، يتّضح أنّه بدعاوى النفقة هناك أفضليّة نسبيّة للمحاكم الدينيّة، وبخاصّة في ما يتعلّق بفترة الإجراء والمناليّة، رغم أنّ المَبالغ التي أقرّتها المحكمة المدنيّة كانت أكبر؛ وهو ما يؤدّي إلى تطبيق المساواة على نحوٍ جزئيّ داخل المحاكم المدنيّة التي بدأت تطبّق مبادئ مدنيّة خارجة عن القانون الشخصيّ، بينما ما زالت تستعمل اللغة الأبويّة والمصطلحات والاقتباسات من القانون الشخصيّ، نحو: النشوز والاحتباس والطاعة.(5) أضف إلى ذلك أنّ محاكم شؤون العائلة لا زالت تعاني حواجز عدّة أمام جمهور المحتكمين العرب من حيث عدم وجودها في المناطق العربيّة، ومن حيث إنّ الأعباء المادّيّة (مثل الرسوم والنفقات) أعلى من المحكمة الشرعيّة، فضلاً عن كونها لا زالت حيّز "اغتراب" للنساء العربيّات تحديدًا اللواتي يصطدمن بحواجز ثقافيّة متمثّلةً باللغة العبريّة وهُويّة القضاة (القوميّة والجنسيّة)  إضافة إلى المعاملات المركّبة والبيروقراطيّة -وهنا يقع على الدولة وإدارة المحاكم ضمان مناليّة هذه المحاكم لجمهور المحتكمين العرب وتحديدًا النساء.

ختامًا، إنّ الحكم على واقع النساء في المحاكم المدنيّة لا زال مبكّرًا، ولكن لا شكّ أنّ إفساح المجال الديمقراطيّ للاختيار هو في حدّ ذاته إنجاز تجب المحافظة عليه والسعي لتطويره بما يضمن المساواة الفعليّة، كما أنّه لا شكّ في أنّ إخراج قضايا النساء من الحيّز الخاصّ إلى الفضاء العامّ وطرحها بقوّة من خلال نقد المنظومة الاجتماعيّة الذكوريّة من شأنه المساهمة في تقوية الحصانة المجتمعيّة للفلسطينيّين في البلاد، من منطلق كون الممارسات الذكورية تنال من قوّةِ المجتمع وإمكانيّاتِ تطوُره وإحقاق العدالة الاجتماعيّة له وأفراده.

 

(1) غانم، هـ. (2005)  مواقف من قضايا وحقوق المرأة الفلسطينيّة في إسرائيل. إصدار جمعيّة نساء ضدّ العنف.

(2) هذا مع العلم أنّ المحاكم الشرعيّة في إسرائيل خاضعة للقانون الإسرائيليّ ومؤسّسات الحكم الإسرائيليّة، وتسري عليها بعض القوانين  المدنية.

(3) http://pstatus.org/index.php?todo=news&nid=00000040

(4) "ملخّص نشاط القسم القانونيّ خעال السنوات 2006-2010، المرافعة القانونيّة في الأحوال الشخصيّة"، جمعيّة كيان.

(5) بطشون، شيرين. 2010. "نفقة الزوجة ومبدأ المساواة بين المرأة والرجل". نشرة السوار، العدد 71.

 

* نشر هذا المقال في العدد السادس عشر من مجلة "جدل"  الصادرة عن مدى الكرمل.

 

** هبة يزبك: ناشطة سياسيّة ونسويّة، طالبة دكتوراه في قسم العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة جامعة تل أبيب، ومركّزة لجنة العمل للمساواة في قضايا الأحوال الشخصيّة.

 
 
 
 
 
 
 
إتصل بنا
هاتف : +972(4)6462138
قاكس : +972(4)6553781
[email protected]