مقالات ودراسات

 

 

تتمتّع المحاكم الكنسيّة في إسرائيل بوضعيّة قانونيّة خاصّة وباستقلاليّة كبيرة مقارنة مع سائر المحاكم الدينيّة؛ إذ بينما تخضع جميع المحاكم الدينيّة في البلاد إلى إشراف وَ/أو تدخّل من جانب الدولة، سواء أكان ذلك من حيث ترتيبات عملها، أم من حيث تعيين القضاة داخلها، وغير ذلك، تتمتّع المحاكم الكنسيّة باستقلاليّة تامّة في إجراءات تعيين القضاة، بفرض وجباية رسوم المحكمة، إدارة الميزانيّات وكذلك في الإجراءات القانونيّة والنظُم.

في مقالي سأطرح كيفيّة تعامل المحاكم الكنسيّة مع قضايا الطلاق والتفريق، من وجهة نظر نساء متقاضيات أجريت معهنّ مقابلات شخصيّة (وعددهنّ 81 امرأة)، كما سأحاول أن أطرح الإشكاليّات القانونيّة النابعة عن الاستقلاليّة التي تتمتّع بها المحاكم الكنسيّة في إسرائيل.

الطلاق غير متاح في المحاكم الكاثوليكيّة واللاتينيّة، بينما في قوانين المحكمة الكنسيّة الأرثوذكسيّة علل تتيح منح الطلاق وفكّ الرابطة الزوجيّة مع وجود علل مختلفة للزوج وللزوجة لطلب الطلاق. 
في المحاكم الكاثوليكيّة واللاتينيّة، من الممكن طلب فسخ الزواج، وهو إجراء يُلغى فيه الزواج عند انعدام إقامة عاقة جنسيّة أو بطلان الزواج، وهو يعني أنّ الزواج يُصبح باطلاً نظرًا إلى علل قانونيّة مختلفة يخلّ وجودها بالموافقة الحرّة أحد الزوجين.  في الحالتين، يُلغى الزواج ويعود الزوجان ليصبحا أعزبين. كذلك يمكن طلب الهجر في المحاكم المذكورة، وهو بمثابة قرار حكم تصريحيّ لا يحرّر الزوجين من الرابطة الزوجيّة.

أبرزَ تحليلُ المقابلات التي أجريت مع نساء متقاضيات في المحاكم الكنسيّة الأرثوذكسيّة أنّ غالبيّة إجراءات الطلاق التي جرت هناك (%66 من الإجراءات) قُدّمت بموافقة الطرفين، وبمبادرة منهما.

كذلك إنّ %40 من القضايا كانت قضايا غيّر فيها الطرفان طائفتهما من إحدى الطوائف اللاتينيّة أو الكاثوليكيّة الى الطائفة الأرثوذكسيّة بسبب عدم القدرة على الطلاق وَفقًا للقوانين سارية المفعول في طائفتهما.

تراوحت مَبالغ الرسوم التي جُبيت في المحكمة الأرثوذكسيّة بين 3,000 ش.ج. وَ6,000 ش.ج. وفي الإجراءات التي جرى فيها تغيير الطائفة، تراوحت بين 6,000 ش.ج.  وَ 13,000 ش.ج.؛ وذلك بسبب جباية رسوم إضافيّة مقابل إجراء تغيير الطائفة.

 يجدر بالإشارة أنّ الرسوم المذكورة أعلاه تُعتبر مرتفعة، سواء عند مقارنتها بالرسوم التي تجبيها المحاكم الدينيّة الأخرى في شؤون مشابهة (223 ش.ج. مبلغ رسوم تقديم دعوى طاق في المحكمة الشرعيّة أو الدرزيّة)، أو عند مقارنتها بالرسوم التي تُجبى في محكمة شؤون العائلة (تتراوح بين 230 ش.ج.  وَ 467 ش.ج.، وفي دعاوى الممتلكات تبلغ 2,798 ش.ج.  أو نسبة %1 من مبلغ الدعوى).

ومن الجدير أن يشار إلى أنّ مبلغ الرسوم الباهظ جدًا الذي تجبيه المحكمة الكنسيّة الأرثوذكسيّة، لا شبيه له في الجهاز القضائيّ، وهي نابعة من انعدام رقابة الدولة على مبالغ الرسوم، كما أنّها نابعة من الاستقلاليّة التي تتمتّع بها المحكمة.  كذلك ليست هنالك إجراءات واضحة بالنسبة للإعفاء من الرسوم أو تخفيضها.

أمّا بالنسبة إلى مدّة الإجراءات، فقد كان ثمّة فرق ملحوظ بين الإجراءات التي جرت بموافقة ومبادرة الطرفين والإجراءات التي لم تتوافر فيها الموافقة.  فعند توافر الموافقة، انتهت الإجراءات خلال شهرين (في المعدّل)، وعُقدت فيها جلستان كأقصى حدّ، بينما في الإجراءات التي لم تتوافر فيها الموافقة استمرّ الإجراء سنوات (ما بين سنتين وعشر سنوات في إحدى الحالات)، وعُقِدَ ضمنها ما معدّله ستّ جلسات.

 

عندما سُئِلت النساء المتقاضيات عن المشاكل المركزيّة في الإجراء من وجهة نظرهنّ، أشرن إلى مشاكل كثيرة منها:  الشعور بعدم مهنيّة المحكمة، انعدام الشعور بـِ "سلطة القانون"، الأجواء الذكوريّة داخل المحكمة، غياب شخصيّة نسائيّة وانعدام الحسّاسيّة لقضايا النساء- ولا سيّما في قضايا العنف العائليّ وعدم جاهزيّة المحكمة معالجة حالات طارئة.

 

كذلك أشارت نساء كثيرات إلى موضوع التعلّق بموافقة الطرف الثاني كَسِمَةٍ بالغة السلبيّة، يعيش الزوج/ة في  "سجن" حتّى يوافق الطرف الآخر على تحريره، كما أنّه يؤدّي إلى ابتزاز من جانب الطرف الرافض للطرف الراغب في الطلاق للتنازل عن حقوق ماليّة مقابل الزواج وفي المعتاد تكون المرأة هي الحلقة الأضعف في هذه المعادلة بسبب الوضع الاجتماعيّ الاقتصاديّ القائم.

في المقابل، أشار تحليل المقابَلات التي أجريت مع نساء متقاضيات في المحاكم الكاثوليكيّة واللاتينيّة إلى أنّ قضايا الهجر لا تسعف المرأة في شيء، إذ إنّها لا تصرِح إلاّ عن وجود انفصال بين الزوجين، كما أنّها قد تستغرق سنوات.

 

أمّا في ما يتعلّق بقضايا فسخ وبطلان الزواج، فتلك إجراءات تستغرق هي كذلك سنوات، وهي إجراءات مركّبة وتتطلّب مصادَقة هيئة أخرى (هيئة الاستئناف في حالة بطلان الزواج ومصادقة الفاتيكان عند فسخ الزواج)، ممّا يجعل الإجراء طوياً ومعقَدًا.

أعتقد أنّ الوضع القانونيّ القائم في المحاكم الكنسيّة، والمتمثّل في جباية رسوم باهظة وفي إجراءات طويلة ومعقَدة واحتمالات ضئيلة جدًا للأزواج المنتمين إلى الطوائف الكاثوليكيّة واللاتينيّة في فكّ الرابطة الزوجيّة، ناتج عن الاستقلاليّة الواسعة التي تتمتّع بها تلك المحاكم.

في ظلّ وجود سلطة وحيدة وحصريّة لتلك المحاكم، للنظر في قضايا الزواج والطلاق، يُفرَض على الأزواج البقاء في حالة زواج "مفروض" وإن كان قد بدأ بالموافقة، ودونما قدرة فعليّة وحقيقيّة على قطع وَ/أو حلّ العاقة الزوجيّة، وهو أمر قد تكون له تبعات اقتصاديّة ونفسيّة واجتماعيّة صعبة بالنسبة لكلّ طرفٍ من الطرفين.

الوضع القائم يمسّ بحقّ الفرد الأساسيّ في اختيار زوجه /زوجته وَ/أو الاستمرار في العلاقة الزوجيّة، وله إسقاطات أكثر خطورة بالنسبة للنساء، بسبب العقوبات الاجتماعيّة الناتجة عن الحياة المشتركة دون زواج بالنسبة للنساء العربيّات، أو أنّ الأمر يُفضي إلى ابتزاز يمارسه الطرف الرافض للطلاق بغيةَ تنازُل الطرف الراغب فيه عن حقوقه/ا الماليّة.

 

إنّ حقّ الإنسان في الزواج وتأسيس أسرة، وواجب الدولة في ضمان المساواة في حقوق ومسؤوليّات الزوجين خلال الزواج وعند حلِه كذلك، هما أمران تَضْمنهما المواثيق الدوليّة التي وقّعتها إسرائيل، بما فيها المعاهدة الدوليّة للحقوق المدنيّة والسياسيّة (1966)، كما تؤكّد اللجنة المختصّة بتطبيق اتّفاقيّة القضاء على جميع أنواع التمييز ضدّ المرأة، اللجنة التي عالجت ملفّ إسرائيل بتوصياتها العائدة إلى الـ 4 من شباط عام 2,82، تؤكّد واجب الدولة إيجاد إمكانيّة مدنيّة بديلة وَ/أو إضافيّة للزواج والطلاق.

 

أرى أنّ دور الدولة في التدخّل وَ/أو التنظيم وَ/أو الإشراف على المحاكم الكنسيّة هو أمر مهمّ جدًا لحماية جمهور المتقاضين وجمهور النساء، وهو أمر مستوجَب بحكم مكانة المحاكم الدينيّة التي تُلزِم قراراتُها الأفرادَ والدولة، وفي ضوء الصاحيّات الممنوحة لها بموجب القانون. كذلك أرى أنّ الإشكاليّات التي تطرحها النساء، والمفصَلة آنفًا، تستحقّ معالجة المحاكم الكنسيّة لها وبذل المحاولات لحلّها من قبلها.

 

 

* نشر هذا المقال في العدد السادس عشر من مجلة "جدل"  الصادرة عن مدى الكرمل.

 

 

 

** شيرين بطشون: محامية ومركزة القسم القانوني في التنظيم النسوي –كيان.

 
 
 
 
 
 
 
إتصل بنا
هاتف : +972(4)6462138
قاكس : +972(4)6553781
[email protected]