مقالات ودراسات

 

المرأة و الشريعة في الدستور وإمكانيّات توسيع الخيال(1)/ مروة شرف الدين  

 مروة شرف الدين**

 

كمواطنة مصرية ارتبطت التاء المربوطة بكلمة (مواطن)  لوصفي، فأعطتني بعض الحقوق والحرّيّات وحرمتني من البعض الآخر، وددت أن أطرح بعض الأسئلة التي قد تساعدنا للوصول إلى دستور أفضل في يومٍ من الأيّام.

الآن ونحن بصدد كتابة دستور (ثوريّ) جديد، الأجدر بنا أن نتذكّر أنّ الأمم القويّة تقاس اليوم –في المعتاد- بمدى الرقيّ الذي تُعامِل به المُهمَّشِين في صفوف مواطنيها؛ هل تعطي الفقير وذوي المعتقدات الأخرى -السماويّة وغير السماويّة– ومتحدّي الإعاقة والعاطلين عن العمل والحوامل والمسنين والأطفال والمرضى حقوقًا تضمن لهم عيشة كريمة بالرغم من رقّة حالهم أم ا؟ ففي المعتاد، هذه الأمم تمشي حسب قانون الغاب مع مواطنيها الذي يُغلّب القويّ على الضعيف، بل هي أمم أعطت العقل والرحمة قيمة أكبر من القهر، مثلما فعل الرسول عند فتح مكّة، وفي ما بعد عندما أصبح في عداد الأقوى آنذاك، فلماذا لا نستطيع أن نتّخذ هذا الطريق سبيلاً؟

 

يساعدنا هنا العالم البرازيليّ الكبير باولو فيرير لفهم هذه الظاهرة في كتابه "تعليم المقهورين"، فمن كان مقهورًا في علاقة مغلقة لا نستطيع أن نتوقّع منه أن يصبح رحيمًا بزملائه القدامى المقهورين، أو أن يقوم بدَوْر في تحريرهم عندما تعطيه بعض القوة، فتجده يقهرهم مثلما كان يُقهَر من ذي قبل. ما ينقذنا من هذا المصير المشؤوم هو أن ندخل في ما يسميه فرير "عمليّة خلق وعي"، لكي نفهم سبب وجودنا في حلقة القهر هذه وكيفيّة خروجنا منها.

كلّنا في مصر ما بعد الثورة نحتاج أن ندخل في عمليّة خلق الوعي هذه، لا سيّما حين نكتب دستورنا الجديد، وأردّدها: كلنا.

ويأتي هنا سؤالي: إن كنّا قرّرنا أن نختار ألّا نسلك طريق هذه النوعيّة من الأمم، وقرّرنا أن نُغلِب من يعتقد أنّه الأقوى على من يعتقد أنّه الأضعف بحجّة اتّباع دين الله، فلماذا نُصِرّ دومًا على اتّباع الطبعة القهريّة من هذا الدين؟ ما هي الأسباب التي جعلتنا اليوم نشعر بأنّه لكي يكون الدين صحيحًا يجب أن يرتبط بعدم المساواة والقهر؟ فكلّما كان الشيخ أو القسيس أو الكاهن يشجّع الانغلاق والتفرقة بين البشر احترمناه وشعرنا بأنّه الأقرب إلى الله؟ هل هذه صفات يشجّعها فعلاً ربّي وربّك؟ نعرف جميعًا أنّ الجواب هو "لا" قويّة.

 

فكما درّسونا من قبل، الشريعة هي الرسالة الإلهية التي من المفترض أنّها لا تتغيّر بالزمان والمكان للوصول إلى دنيا أفضل وآخرة أفضل. أمّا الفقه فهو المحاوات الإنسانية المستمرّة والمتغيّرة لفهم هذه الرسالة الإلهية، ولكي يفهم العلماء هذه الرسالة طوّروا ما سُمِّي بعلم أصول الفقه، وهي القواعد والأدوات المعرفيّة (كالقياس –على سبيل المثال) التي يستخدمها الفقيه استنباط "الأحكام" من المصادر الشرعيّة (القرآن والسنّة). إذًا، في المعتاد تكون الأحكام مجهودًا بشريًا، متأثّرًا بما حوله، لفهم الإرادة الإلهية.

 

فماذا، مثلاً، عن حكم الشريعة الخاصّ بولاية الأب في تزويج ابنته البكر والتي لم تَبلُغ بعد؟ اتّفق الكثير من الفقهاء على أنّه من حقّ الأب أن يزوّج ابنته البكر الطفلة دون الرجوع إليها.لا يبدأ الخلاف يدبّ بينهم إلاّ عندما تكون هذه البنت قد بلغت، فهل رضاها لازم هنا أم لا؟ عندما نعرف اليوم المخاطر الجسديّة لتزويج الأطفال ، وأنّ هناك قرى بأكملها في مصر يُزوِّج الآباء بناتهم لأثرياء عرب على نحوٍ متكرّر في صورة دعارة مقنّعة، مستندين إلى الشرعيّة الدينيّة والاجتماعيّة التي تعطيها لهم هذه النوعيّة من الأحكام، فهل لا نزال نطالب بهذا الحكم أن يكون له أيّ تأثير قانوني في مصر ما بعد الثورة؟

 

بودّي أن أسوق سريعًا بعض الأمثلة التي ستساعدنا على توسيع خيالنا نحو مكان أكثر رحابة لا يُنكِر على الدين قدرته للاقتراب من تحقيق المساواة بين الناس إن أردنا له ذلك. فمثلاً نجد في قوانين أحوال شخصيّة لدول عربيّة وإسلاميّة (كليبيا والجزائر)  أنّ الطلاق يجب أن يجري في المحكمة أمام القاضي، لا بإرادة الرجل المنفردة فقط، تفاديًا للطلاق الشفهيّ غير المسجَل ودرءًا لمفاسده، كما أنّ دولاً مثل المغرب قنّنت ما أسمَوْهُ "الطلاق للشقاق" استنادًا إلى القرآن، الذي يتقدّم به الرجل أو المرأة للقاضي بالتساوي طالبين الطلاق بناءً على أسباب شقاقهم، ويحكم القاضي بالطلاق والتعويض للطرف المتضرّر حتّى إن كان الطرف المتضرّر هو الرجل. أمّا تعدّد الزوجات، فبغضّ النظر عن أنّه في انخفاض مستمرّ نظرًا للظروف الاقتصادية وتغيُر نظرة المجتمع له، عملت قوانين بعض الدول على وضع شروط مختلفة له مُحاوِلَةً محاصَرة أضراره والسماح به في حالات الضرورة فقط، ومنها قوانين في الأردن وسوريّا والجزائر والمغرب. أمّا الميراث، فتتشرّف مصر بأنّها من أوائل الدول التي أبدعت حلّ "الوصيّة الواجبة" الذي أخذته منها دول عربيّة عدّة لعلاج ظلم يَحدث للحفيد الذي يموت والده في حياة الجدّ، فيُحرَم الحفيد من الميراث عند موت الجدّ إذا طبّقنا أحكام المواريث تطبيقًا نقليًا مغلقًا وغير عقلانيّ.  كلّ هذه أمثلة على أنّ الأمور ليست مغلقة كما تبدو لنا وأنّ "الشريعة" ليس ضروريًا لها أن تلتصق بعدم المساواة لتكون شريعة "حقيقيّة"، فهناك مساحة من التفكّر والتصرّف والاقتراب من المساواة إن نحن بدأنا نخلق لدينا الوعي الذي يلفظ القهر والتفرقة، ويرحّب بالمساواة والحرّيّة.

 

أمّا حقّ الزوجة في النفقة، فهذه في الحقيقة معضلة تواجه دولاً عدّة مثل مصر، فنحن نعلم أنّ ثلث بيوت مصر تعيلها النساء منفردات، أمّا الثلثان الباقيان فأصبحت مشاركة المرأة في الإنفاق على الأسرة  شبه محتومة في ظل الظروف الاقتصاديّة الطاحنة، والمرأة كذلك تنفق على بيتها بعملها المجّانيّ داخل المنزل، لأنها توفّر على أسرتها شراء الخدمات التي تقوم هي بها منزليًا، ونعلم نحن كلّنا أنّ أحكام النفقة في المحاكم تذهب أدراج الرياح ولا تجد من ينفّذها للنساء، فعن أيّ نفقة وأيّ طبقة اجتماعيّة من الرجال نتكلّم في أرض الواقع؟ حاول قانون الأحوال الشخصيّة للمسلمين السنغافوريّين أن يحلّ هذه المعضلة بالحفاظ على الذمّة الماليّة المنفصلة لكلا الزوجين، فأعطى الزوجة المسلمة المُطلّقة، على الأقلّ، ثلث الثروة التي تكوّنت أثناء علااقة الزواج فقط (لا يدخل في الحسبة هنا أيّ أموال أو عقارات ورثها الزوجان)، وتزيد النسبة بزيادة مشاركتها في النفقة على أسْرتها خلال هذا الزواج لحفظ حقّها وحقّ أولادها من بعدها.

 

هذا التطوّر السريع في الأدوار والمشاكل لم يكن له وجود في الوقت الذي تطوّرت فيه أحكام الشريعة على أيدي فقهاء عُتاة في مجالهم، من يدرس في هذا المجال اليوم يعرف أنّ الفقه الإسلامي في زماننا هذا يواجه ما يسمَى بـِ "أزمة معرفيّة" حقيقيّة، ولا سيّما في ما يتعلّق بالنساء، لأنه مضطرّ أن يواجه واقعًا جديدًا بمعرفة ومُسَلّمات ليست جديدة، وإن كان لديه الأدوات اللازمة بداخله للتطوير والتفاعل مع الواقع على نحوٍ أفضل، ولكن يلزمنا أن تكون لدينا الإرادة للَفظ القهر وعدم المساواة والتخلّص من الخوف.

 

يبقى أن نعرف أنّه على مرّ التاريخ، وبخاصّة في ما قبل نشأة الدولة الحديثة، كانت منظومة القانون الإسلامي منظومة رَحبة، تتفاعل مع الواقع، تأخذ منه وتعطيه، تختلف في ما بينها وترى أنّ هذا الاختلاف رحمة، رفضت بإباء وشَمَم أن يكون عليها وصيّ أو مرجعيّة واحدة تحدّد للجميع ما هي الشريعة لتحمي نفسها وتحمي الدين الذي تنتمي إليه من التسلّط، كانت منظومة حيّة، تتنفّس مع المجتمع فاحترمها، ولكن عندما حاولنا احتواءها وغلْقها في نصوص قانونيّة جامدة تُصْدرها برلمانات منتخَبة بناءً على موادّ دستوريّة محدّدة، تَكلّست وفقدت قدرتها على الحياة والتفاعل. وإلى أن نجد حلاً مجْدِيًا للتعامل مع كلّ هذه التطوّرات، فيقترح البعض أنّ كلمة "شريعة" في الدستور تكون دائمًا مقترنة بكلمة "مبادئ" بدلاً من كلمة "أحكام"، كما هي مكتوبة بالفعل في المادّة الثانية، ولكي يكون الدستور متّسقًا مع نفسه.

لا أعرف ما إذا كان هذا حلاً حقًا أم لا، ولكنّي أطرحه هنا للنقاش. ما أعرفه هو أنّنا بعد الثورة نستحقّ أحسن بكثير من المعروض علينا الآن، وأنّنا في أيّام ليست ببعيدة، في يناير عام 2011، كنّا جميعًا مقتنعين أنّه مشكلتي هي مشكلتك حقًا، وكنّا مستعدّين لدفع حياتنا ثمنًا لذلك في يومٍ من الأيام.

 

(1)   نشر المقال بصيغة أكبر وتحت عنوان "مشكلتي هي مشكلتك" في صحيفة "المصريّ اليوم" في عددها الصادر في 14 تشرين الأول (2012)

http://www.almasryalyoum.com/node/1176816

 

 

* نشر هذا المقال في العدد السادس عشر من مجلة "جدل"  الصادرة عن مدى الكرمل.

 

** مروة شرف الدين: ناشطة نسويّة مصريّة، عضو إدارة في المنظّمة الدوليّة "مساواة" من أجل العدالة في العائلة المسلمة، وفي المراحل النهائيّة من دراستها للقب الثالث في القانون في جامعة أوكسفورد.

 
 
 
 
 
 
 
إتصل بنا
هاتف : +972(4)6462138
قاكس : +972(4)6553781
[email protected]